{{subject.Description}}
إعلان مبادئ تعطله تفاصيل
كلمة ائتلاف استقلال القضاء
من هذا المكان، بدأت رحلة الألف ميل للوصول إلى قانون يحقق استقلال القضاء. ومنذ البدء، كنّا نعرف أن الغاية المنشودة ليستْ إصلاحاً بسيطاً بل ضرورة اجتماعية يفرضُها الدفاع عن المجتمع وعمّا بقي من الدولة. فتحقيق استقلال القضاء كما نفهمهُ يعني تفكيك شبكة المصالح التي تنامتْ داخله طوال العقود الثلاثة الماضية، ومكّنت السلطة الحاكمة من استتباع القضاء والتحكّم في أدائه بما يضمن لها استباحة كل القوانين والحقوق والإفلات المعمّم من العقاب. وهو يعني وضع حدود للسلطة، حدود لاستغلال السلطة وصرف النفوذ، حدود لسلطة استباحت كل الحدود وكل الحقوق ودمّرت مؤسسات الدولة. وهذا ما أدركه الناس حين عاينوا بالعين المجرّدة قتل الأنهار وتفجير الجبال... حين ظهرت أول بوادر الانهيار الذي ما كان ليحصل لولا تعميم حال الإفلات من العقاب. حين تفجّرت بيروت بناسها لأن أحداً لم يأخذ بعيْن الاعتبار الخطر الذي كان يتهدّدها. قدّمنا الاقتراح في أيلول 2018. وانتظرنا 14 شهرا وثورة 17 تشرين لتبدأ لجان المجلس درسه. وانتظرنا 33 شهرا لتنتهي لجنة فرعية منه، بعدما أصرّت اللجنة على مناقشته في الكواليس وبعيدا عن الرأي العام، خلافا لمطلبنا وشرطنا والأهمّ لما تفرضه ألف باء الديمقراطية من شفافية في العمل البرلماني. وها نحن ندخل مرحلة جديدة من مسار هذا الاقتراح: مرحلة تقييم التصوّر الذي وصلتْ إليه اللجنة الفرعية، وهو تقييم أعلنّا مسبقاً أننا سنقوم به على ضوء معايير استقلال القضاء متعارف عليها دوليا. فاستقلال القضاء يبقى مفهوما ضبابيا ومطاطا وفارغا إذا لم يترافق مع ضمانات حقيقية وفق هذه المعايير.
انطلاقا من ذلك، وضعنا ملاحظاتنا التي نضعها برسم الرأي العام، برسم جميع الذين لهم دور أو قدرة على تصويب الاقتراح وسدّ الثغرات فيه. وقد تمّت صياغة هذه الملاحظات ليس على أساس مادة مادة بل على أساس مدى انسجامه مع المعايير الدولية للاستقلال.
المبادئ حين تعطلها التفاصيل
وفي هذا الإطار، سجّلنا بإيجابيّة أنّ الاقتراح اعتمد صراحة عدداً من المبادئ الهامّة (وهذا أمر جيّد)، لنعود ونسجّل أنه تضمّن موادّ من شأنها للأسف نسف هذه المبادئ أو أن تجرّدها من مضمونها أو على الأقل أن تحدّ من مفعولها. ومن أهم الأمثلة على ذلك:
- إنّ الاقتراح كرّس مبادئ عدم نقل القاضي من دون رضاه والترشح للمراكز القضائية الشاغرة وعدم التمييز على أساس طائفي ووجوب التعيين على أساس معايير موضوعية تم تفصيلها على أكثر من 3 صفحات (وكل هذا جيد)، ليعود ويمنح بشطبة قلم المجلس الأعلى للقضاء إمكانية التنصّل من كل هذه المبادئ "في حال عدم توفّر عدد كاف من القضاة الذين يستوفون شروط التعيين في هذا المركز". في قراءة أولى للاقتراح، تظنّ أن السلطة المعطاة للمجلس لتجاوز المعايير هي استثناء وفقط إذا لم يكن هنالك عدد كاف للمرشحين. لكن حين ترى الشروط التعجيزية التي وضعها الاقتراح لكسب صفة الترشح لمركز قضائي (ومنها اشتراط أن يكون القاضي قد تولّى لسنوات عدّة مراكز معينة في محافظات معينة وأن يكون انقضى على تعيينه في المركز الذي يشغله 5 سنوات)، تعرف أنه لن يكون هنالك في الأكثرية الكاسحة من الحالات عدد كاف للمرشحين وأنه سلطة المجلس لتجاوز كل المعايير والمبادئ ستكون القاعدة العامة وليس الاستثناء. هذا عدا عن أن الاقتراح أوجد وظيفة قضائية هجينة هي وظيفة قاضي المهمة، الذي يكون لمجلس القضاء الأعلى انتدابه لأيّ وظيفة ونقله كلما رغب بذلك. ومن شأن كل ذلك أن يجعل استقلالية القضاء في هذه المراكز بالغة الهشاشة وأن ينسف بدوره كل مبادئ الاستقلالية.
- إنّ الاقتراح كرّس مبدأ انتخاب غالبية أعضاء المجلس الأعلى للقضاء من القضاة أنفسهم كما أقرّ حقّ جميع القضاة بالاشتراك بالانتخاب (وهذا أمر جيّد طالما أنه يغيّر الواقع الحالي والذي يقوم على تعيين 8 من 10 من أعضائه من السلطة التنفيذية). لكن النظر إلى شروط الترشيح لانتخابات المجلس هنا أيضا يخفف من أهمية هذا المبدأ، حيث يمنع على القضاة الشباب الذين لم يتموا 8 سنوات في القضاء من الترشح. كما أن الانتخاب يتم بين المرشحين عن 7 فئات من القضاة. وعدا أن الاقتراح أخطأ بذلك حين أعاد التمييز بين فئات "رؤساء الغرف" و"مستشاري الغرف"، فإن من شأن هذا الأمر أن يميز بين المرشحين وفق فئاتهم، حيث تضمّ بعض هذه الفئات أقلّ من 10 مرشّحين محتملين فيما بعضها الآخر يضمّ عشرات المرشحين المحتملين. وما يزيد من قابلية هذا التقسيم للانتقاد هو أنّ السلطة الحاكمة كانت أخضعت في تشكيلات 2017 أربعا من هذه الفئات لمعايير المحسوبية، بما يعطيها إمكانية التأثير على النتائج.
- كرّس الاقتراح مبدأ آخر هو إعلان مبدأ أن للقضاة الطعن في القرارات الفردية الصادرة بحقهم. وهو مبدأ سارع الاقتراح إلى تفريغه من أيّ مضمون من خلال تأكيده في مواضع مختلفة أن أهم القرارات الصادرة بحقهم (ومنها قرار إعلان عدم أهليتهم أي عزلهم من دون محاكمة) لا تقبل أي مراجعة قضائية. كما أن الاقتراح عاد ونص على مخالفة دستورية واضحة بخصوص حرمان القضاة من الطعن في قرارات تأديبهم أمام مرجع مختلف عن المرجع الذي أصدر الحكم الابتدائي. ومن البين أن تجريد القضاة من هذا الحق يعريهم تماما في وجه سلطة يصبح بإمكانها استخدام مجمل الأساليب التخويفية.
- وفي حين أعلن الاقتراح مبدأ حرية القضاة في تأسيس جمعيات بما يسمح لهم بالتضامن فيما بينهم ويحدّ من إمكانية الاستفراد بأي منهم، فإنه عاد ليشترط أن لا يكون موضوع الجمعية متعارضا مع صلاحيات مجلس القضاء الأعلى. وهذا الأمر يكتسي خطورة مبررة، وبخاصة أن مجلس القضاء الأعلى كان استخدمه في عدد من الكتب الصادرة عنه لنسف مشروعية نادي قضاة لبنان على خلفية تضمين أهدافه الدفاع عن استقلال القضاء.
- تم إعلان مبدأ المساواة بين القضاة. ولكن لم يتضمن الاقتراح أشكالا عدة من التمييز، فضلا عن أنه لم يتضمن أي ضوابط لتعيين القضاة في لجان لقاء بدل، وهي الأداة المثلى للمس باستقلاليتهم،
انتهاكات واضحة لمبادئ استقلال القضاء
وفي موازاة ذلك، سجلنا انتهاكات لا تقل وضوحا شكل العديد منها عودة إلى الوراء في العديد من مواد الاقتراح. ومن أبرزها الآتية:
- إن أغرب ما ورد في هذا الاقتراح هو أنه بادر لحذف الفقرة الواردة في المادة 44 من القانون الحالي المتعلّقة بإعلان "القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم". وهذا أمر بالغ الخطورة ويعكس خطوة إلى الوراء في اقتراح يؤمل منه تعزيز استقلال القضاة وليس إنكاره.
- إنّ الاقتراح أبقى على مجمل الصلاحيات الواسعة جدا للنائب العام التمييزي في التأثير على جميع أعضاء النيابة العامة والتدخل في أعمالهم كما نص عليه قانون أصول المحاكمات الجزائية في 2001، وتاليا على كل سيئات هذا القانون، في موازاة نسف الإيجابية الواردة فيه والتي هي تجريد وزير العدل من سلطته على النيابة العامة. وهكذا بدل أن يحدّ الاقتراح من السّلطة غير المبررة للنائب العام التمييزي على أعضاء النيابة العامة، أتى ليزيد سلطة وزير العدل عليها،
- إنّ تعيين كامل أعضاء هيئة التفتيش القضائي يتمّ من السلطة التنفيذية، بما يعرض أعمالها للمحسوبية، خلافا لمبادئ استقلال القضاء. وما يزيد الأمر خطورة هو توسيع صلاحيات الهيئة لتشمل التقييم الدوري للقضاة، هذا فضلا عن أن الاقتراح أعرض عن إعطاء الهيئة إمكانية رفع السرية المصرفية عن القضاة المشتبه بهم،
- إنّ الاقتراح أعرض عن ضمان مجمل أشكال التشاركية بين القضاة في ما يتصل بشؤون محاكمهم وأهمها أنه أعرض عن إنشاء الجمعيات العمومية للمحاكم خلافا لما ذهبت إليه مجمل الدول التي تستلهم نظامها القضائي من القانون الفرنسي.
- أخيرا وليس آخرا، وفي حين سعى الاقتراح الأساسي إلى ضمان المساواة بين المرشحين لدخول القضاء أو معهد الدروس القضائية من خلال حظر استبعاد أي مرشح بطريقة اعتباطية ووضع شروط عادلة للمباريات المنظمة لهذه الغاية، ذهب الاقتراح المعدل في اتجاه معاكس تماما بحيث انتهى إلى إعطاء المجلس الأعلى للقضاء فرصا إضافية لاستبعاد مرشحين بقرارات غير مبنية على أي معايير موضوعية ومن دون أن يكون لهؤلاء أي حق بالطعن في قرارات استبعادهم. وقد تمّ ذلك من خلال وضع شرط إضافي للترشّح للدخول إلى معهد الدروس القضائية، وهو أن يكون المرشح قد نجح في سنة تحضيرية سابقة للترشح، علما أن قبول الطلبات للاشتراك في السنة التحضيرية هو أيضا يخضع لقرار استنسابي تتخذه اللجنة الفاحصة المعينة من المجلس الأعلى للقضاء بعد إجراء مقابلة معهم. كما يكون للمجلس قرار استبعاد أي مرشح لمباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية بناء على مقابلة شفهية أخرى. هذا فضلا عن أن الاقتراح خلا من أي نصوص ضامنة لاستقلال المعهد الذي يبقى وحدة من وحدات وزارة العدل، ووضع إمكانية إعلان عدم أهلية أي من القضاة المتدرجين فيه بقرارات لا تقبل أي طعن.
ومن شأن هذا الأمر أن يزيد من احتمالات توريث القضاء أو المحسوبية في التعيينات.
وعليه، وتبعا لكل هذه الملاحظات، نطالب كائتلاف الأمور الآتية:
- أولا، أن تخضع لجنة الإدارة والعدل الاقتراح لمراجعة جديدة انطلاقا من ملاحظاتنا هذه وبمشاركة ائتلاف استقلال القضاء وعلى أن تحصل المراجعة بصورة علنية، ضمانا لشفافية العمل البرلماني، فنحن لا نؤمن بالتشريع في الكواليس،
- ثانيا، أن تستعين الدولة اللبنانية بمساعدة تقنية من هيئة البندقية Venice commission ضمانا لتضمين القانون مجمل المعايير الدولية التي توفر ضمانات حقيقية لاستقلال القضاء،
- ثالثا، دعوة جميع القوى الإصلاحية، وفي مقدمتها نقابتي المحامين والأحزاب الديمقراطية والجمعيات الحقوقية والحركات الطلابية لمشاركة فعالة في هذه المعركة، ضمانا للنجاح فيها، ضمانا لاستعادة مؤسسات الدولة في مواجهة كل اشكال الهيمنة والاستبداد.