بعد اتّساع نطاق التجارة في العالم واحتلالها دوراً لا يُستهان به في عالمنا الحالي، كانت الحاجة الى التمثيل التجاري الذي أصبح اليوم من القضايا ذات الدور البارز في بلدٍ يسعى إلى تطوير نفسه اقتصادياً وتجارياً مثل لبنان، حيث التجارة تشغل حيّزاً مهماً مماشاة مع التحولات الجارية في البنية الاقتصادية للتجارة الداخلية والخارجية.
أهمية التمثيل التجاري:
النظام اللبناني ومن خلال اعترافه بجميع طرق التواجد التجاري النموذجية، منح المستثمر الأجنبي حق الخيار بين الوجود التجاري الفعلي والمباشر، عبر إنشاء مكاتب أو فروع خاصة بالتمثيل التجاري، أو من خلال تأسيس شركة في لبنان، بهدف تمكين الشركة الأجنبية من بيع منتجاتها وتسويقها فيه عن طريق التعاقد مع وكيل تجاري أو موزّع حصري لها يقوم بأعمال بيع وشراء واستئجار باسم ولصالح الشركة الاجنبية، أو تسمية موزّع حصري يبيع لحسابه ما يشتريه من الشركة الأجنبية بموجب عقد الوكالة.
ومن الملاحظ أنّ الغموض قد أحاط في الآونة الأخيرة بموضوع الوكالات التجارية، من خلال رفع الحماية عنها، بحجّة السعي من أجل خفض الأسعار والقضاء على الاحتكار، إلاّ أنّ أصحاب الوكالات يرون أنّ وكالاتهم ليست حصرية ولا احتكارية، وأنّها وكالات مصانع أجنبية خاضعة لشروطها، ويسعون إلى توظيف مبالغ كبيرة من أجل توفير الاتصال بالخارج والسفر إليه بهدف التواصل مع المسؤولين عنها وتقديم الكفالات، وذلك للمحافظة على سمعة الماركة التي يمثّلونها.
ومن النافل القول أنّ من شأن إلغاء الوكالات اعتباطياً ودون مبرّر إحداث تأثيرات سلبية في الاقتصاد الوطني، بدءاً من العامل، مروراً بالشركات، وصولاً إلى المصارف، كون هذه الوكالات من شأنها تسهيل التعامل التجاري المتشعّب الأطراف والعقود الناتجة عنه، من خلال توفير الاتصال بين الصّانع والتاجر والمستهلك، خاصة إذا ما وجد كلّ منهم في بلدٍ بعيدٍ عن الآخر.
تعريف الممثّل التجاري والموزّع الحصري:
ايماناً بالدور البارز الذي يلعبه التمثيل التجاري والوكالات الحصرية في إعلاء شأن التجارة وتطويرها، من خلال الوساطة التجارية بكافة أشكالها، كان للمشرّع اللبناني الوقع الأمثل في إرساء أحكام التمثيل التجاري وتنظيمها وفق المرسوم الاشتراعي رقم 34/67 الصادر بتاريخ 5/8/1967 وتعديلاته، في سبيل مدّ يد العون للشركات الضخمة الساعية إلى تحقيق أسمى مراتب التطور التجاري عبر تسويق منتجاتها بطريقة علمية مدروسة خدمة لأهدافها في كافة المجالات من تجارية واستثمارية.
من هنا جاء المرسوم الاشتراعي رقم 34/،67 وفي المادة الاولى منه المعدّلة وفقاً للمرسوم رقم /9639/ تاريخ 6/2/1975، معرّفاً الممثّل التجاري بما يلي: "الممثل التجاري هو الوكيل الذي يقوم بحكم مهنته الاعتيادية المستقلة، ودون أن يكون مرتبطاً بإجارة خدمة، بالمفاوضة لإتمام عمليات البيع والشراء او التأجير او تقديم الخدمات، ويقوم بهذه الأعمال باسم المنتجين أو التجار ولحسابهم". ويعتبر أيضاً بحكم الممثل التجاري "التاجر الذي يقوم لحسابه الخاص ببيع ما يشتريه بناء لعقد يتضمّن إعطاء صفة الممثل أو الموزّع الوحيد بوجه الحصر".
ومن الملاحظ إذاً أنّ المشرّع وصف الممثل التجاري انطلاقاً من عقد الوكالة، إذ اعتبره وكيلاً، مستبعداً ارتباطه مع الموكل بعقد إجارة الخدمة، معتمداً في الوصف أعلاه عناصر عقد الوكالة، فارضاً على هذا الوسيط التجاري القيام بأعماله باسم موكّله ولحسابه. والجدير بالذكر أنّ الممثل التجاري بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 34/67 تاريخ 5/8/1967 يتمتّع بالاستقلالية التي تعتبر من جوهر عقد التمثيل التجاري التي تضفي عليه طابعاً مميزاً وخصوصية معيّنة كونها تنصهر ضمن نطاق طبيعة الرابطة بين الموكّل والممثل التجاري، دون الطريقة المعتمدة من الممثل التجاري في معرض تنفيذه عقد تمثيله، هذا بالإضافة الى عنصر امتهان الممثل التجاري النشاط الذي يمارسه، والذي يفرض عليه القيام بعمله بصورة اعتيادية مستمرة .
كما يستفاد أيضاً من المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي المذكور في فقرتها الثانية أنّها تقصد الممثل أو الموزّع الحصري الوحيد باعتباره بحكم الممثل التجاري، حيث رتّبت على كلّ منهما موجبًا حصريًا متبادلاً ومقيّدًا لهما معًا انطلاقًا من كونها تحدّثت عن "عقد التمثيل التجاري"، وما ينتج عنه من علاقات الزامية وموجبات ملقاة على عاتق طرفيه، كونه شرعة المتعاقدين ومندرجاته هي المعوّل عليها لتحديد تلك الموجبات، من خلال الحؤول دون إمكانية البائع بيع البضاعة المذكورة لغير المفوّض بالبيع، كما أوجبت على هذا الأخير بيع البضاعة موضوع بند الحصر بمفردها دون غيرها من البضائع المماثلة العائدة لشركات أخرى.
أحكام التمثيل التجاري:
تأسيسًا على ذلك، إنّ المشرّع اللبناني قد حمى الممثل التجاري الذي يمارس مهنته ضمن الشروط والأحكام المكرّسة في المرسوم الاشتراعي رقم 34/67، ولا سيّما لجهة أن يكون لبنانياً وأن يكون له محل تجاري في لبنان، محدّداً الموجبات الملقاة على عاتق الممثل التجاري في حال كونه شركة، وذلك في المادة الأولى من المرسوم المذكور التي نصت على ما يلي:
"وإذا كان الممثل التجاري شركة وجب:
- في شركات الأشخاص والشركات المحدودة المسؤولية، أن تكون أكثرية الشركاء من اللبنانيين وأكثرية رأس المال للبنانيين وأن يكون صاحب الحق بالتوقيع عنها لبنانياً.
- في الشركات المساهمة، أن تكون أسهمها إسمية وأكثرية رأسمالها للبنانيين وأن يكون ثلثا أعضاء مجلس إدارتها ورئيس مجلس إدارتها ومديرها العام أو الشخص المنتدب من قبل رئيس مجلس الإدارة أو المدير العام لكل وظائف إدارتها أو لجزء منها، جميعهم من اللبنانيين".
ذلك بالإضافة الى أنّ المرسوم الاشتراعي رقم 34/67 اشترط أن يكون عقد التمثيل التجاري خطياً أي من خلال سندٍ مكتوب سواء أكان رسميًا أم ذا توقيع خاص مشترطاً لسريانه على الغير أن يعلنه الوكيل بقيده في السجل التجاري، إذ نصت المادة الثانية في فقرتها الثالثة منه على ما يلي: "لا يسري بند حصر التمثيل على الأشخاص الثالثين إلاّإذا أعلنه الوكيل بقيده في السجل التجاري".
إنّ المرسوم الاشتراعي المذكور قد انطلق إذًا من طبيعة عقد التمثيل الحصري كونه التزامًا من شركة تجاه شركة أخرى من أجل منح إحداها للاخرى حق تمثيلها في بلد معيّن، وتسويق وبيع منتجاتها بطريق الحصر، حامياً الوكيل تجاه الأشخاص الثالثين من خلال تسجيل بند حصر التمثيل أصولاً في السجل التجاري.
وبالتالي فإنّ من يشتري بضائع وسلع حاملة ماركة عائدة للشركة مانحة حق التمثيل والتوزيع الحصري من خارج الوكيل الحصري، لبيعها في السوق التي تحصر الشركة المانحة حق بيعها وتوزيعها بوكيل حصري لهذه السلع والمنتجات، يكون مسؤولاً تجاه الوكيل المحدّد وملزماً بالتعويض عن فعله الضار اللاحق به.
وعلــيه، فالموزّع الحصري هو وحده صاحب الحق ببيع البضائع التي يمثلها، وضمن النطاق الجغرافي الممنوح له بموجب عقد التمثيل التجاري، وإنّ تسجيله لبند التمثيل الحصري في السجل التجاري يمنع الأشخاص الثالثين من الاستيراد المباشر او غير المباشر للبضاعة التي يمثلها ويوزّعها الوكيل الحصري، وإلاّ ترتّبت مسؤوليتهم تجاهه انطلاقاً من عدم إمكانيتهم التذرع بجهل الحصر كون تسجيل بند الحصر في السجل التجاري منشئًا لقرينة قاطعة على سوء نيّة المستورد، فلا يعود لأي شخص أن يتذرّع بمبدأ نسبية العقود أو حرية التجارة.
كما يمكن للوكيل التجاري بموجب المادة الثالثة من المرسوم الاشتراعي 34/67 أن يقوم بأعمال تجارية لحسابه الخاص، ويمكنه أيضًا أن يكون ممثلاً لعدة شركات شرط أن لا تكون عقود الوكالة الجديدة لسلع منافسة للسلع موضوع العقد الأوّل، إضافة إلى حقّه بتعيين مندوبين له مقابل تقرير الأتعاب التي يراها مناسبة.
إنّ المبادئ السالفة الذكر تعتبر تكريسًا لمبدأ استقلالية الممثل التجاري في ممارسة أعمال وكالته وتنظيم نشاطه التجاري الاعتيادي، بمعنى أنّه من الواجب على الممثل التجاري التعامل مع الزبائن وإدارة أعماله وفقًا للشكل الذي يراه مناسبًا.
إن المشرّع اللبناني أيضًا منح الممثل التجاري في المادة الرابعة من م.إ.34/67 الحق في حال انتهاء العقد بحلول أجله وبالرغم من كل بند مخالف، بالمطالبة بتعويض عادل يقدّره القضاء، إذا كان نشاطه قد أدّى إلى نجاحٍ ظاهرٍ في ترويج ماركة موكّله أو في زيادة عدد زبائنه، وحال دون جنيه الربح من جرّاء امتناع موكّله عن تجديد عقد التمثيل، بالإضافة إلى منحه حق المطالبة بتعويض في حال فسخ عقد التمثيل التجاري من قبل موكّله دون خطأ منه أو سبب آخر مشروع نتيجة الضرر اللاّحق به وما يفوته من ربح.
من الملاحظ إذًا أنّ المشرّع اللبناني أراد في المادة الرابعة المذكورة حماية الممثل التجاري من خلال حفظ حقّه بالمطالبة بالتعويض بالرغم من كل نص مخالف، إذ لم يجز فسخ العقد الاّ بسبب خطأ من قبل الممثل التجاري، أو لأي سبب آخر مشروع، أو لانتهاء العقد بحلول أجله، مانعاً فسخ عقد التمثيل التجاري من قبل طرف واحد بمشيئته المنفردة ودون أسباب مبرّرة.
وفي هذا السياق، كان للاجتهاد اللبناني دور بارز في إرساء قواعد عقد التمثيل التجاري من خلال صدور عدة قرارات متعلقة بهذا الموضوع لها من الأهمية ما يستوجب الإضاءة عليها في دراسات أخرى وترتيب تعويض على فسخ العقد من قبل الموكل دون خطأ من الممثل الموزع او سبب آخر مشروع إنطلاقاً من الغاية التي سعى المشرّع إليها من خلال تحقيق توازن في الحقوق والموجبات واعتبار التمثيل التجاري الحصري من العقود المتبادلة الموضوعة لمصلحة المتعاقدين من أجل نيل منافع متعادلة ومحسوسة.
أيضاً إنّ المرسوم الاشتراعي رقم 34/67 في المادة الخامسة منه قد حمى الممثل التجاري حين حفظ صلاحية محاكم المحل الذي يمارس فيه الممثل التجاري نشاطه، للنظر في النزاعات الناشئة عن عقد التمثيل التجاري، إذ نصّت على ما حرفيته: "بالرغم من كل نص مخالف، تعتبر محاكم المحل الذي يمارس فيه الممثل التجاري نشاطه، صالحة للنظر في النزاعات الناشئة عن عقد التمثيل التجاري".
إنّ نص المادة المذكورة حفظ صلاحية المحاكم اللبنانية، وبالتالي فهو من النصوص الإلزامية المتعلّقة بالنظام العام، بحيث يمتنع على المتعاقدين في عقود التمثيل التجاري و/أو التوزيع الحصري أن يتفقوا على إيلاء النظر في النزاعات الناشئة عنها إلى المحكمة التي يريدونها، والغاية من ذلك حماية الممثل التجاري اللبناني وتأمين عدالة مضمونة له وفقاً لقوانين بلاده.
وأخيراً لا بدّ من الإشارة الى أنّ المرسوم الاشتراعي 34/67 جاء ليكون نصاً استثنائياً خاصاً منظماً موضوعاً معيناً بالذات هو موضوع التمثيل التجاري وحدّد مفاهيمه وأحكامه تماشياً مع متطلبات التجارة وتطوّرها اللامتناهي.
إنّ هذه الدراسة المختصرة والصفحات القليلة لهي أعجز من أن تفي هذا الموضوع حقه، كونه من المواضيع التي تحتاج معالجتها إلى مطوّلات ودراسات عديدة، لا بل إلى مجلّدات، وإذ نحن على يقين من أنّ ما سطّرته أقلامنا عبر معالجة الأحكام العامة للتمثيل التجاري في محاولة لإلقاء الضوء على أهمّيته يظلّ مجالاً من المجالات المتفرّعة والمتشعّبة لهذا الموضوع، نتطلّع إلى المستقبل القريب الذي نراه زاخراً بكتابات للعقول الفقهية النّيرة التي ستتناول الجوانب الأخرى من هذا الموضوع بمزيد من التعمّق والتمحيص.