عملاً بمبدأ حرية التجارة والصناعة المكرّسة في مقدّمة الدستور اللبناني، وتحديداً في الفقرة «و» منه، إعتمد لبنان النظام الاقتصاد الحرّ المتمثل في أن يمارس كل فرد أو مؤسسة اقتصادية النشاط الاقتصادي والصناعي على النحو التي يرتأيه، وان هذا النظام يقوم على حرية التنافس، في ما بين المؤسسات الاقتصادية، أي على التسابق في سوق واحدة لتوفير الخدمات والسلع، إشباعاً لحاجات المستهلكين عبر استعمال كافة الوسائل المشروعة والمتاحة، من أجل استقطاب الزبائن وبلوغ أهدافهم الإقتصادية، فأضحت المزاحمة تشكل إحدى المقوّمات التجارية في نموّ الأنظمة الإقتصادية الحرّة وتطويرها، لأنّها تحمي المستهلك من الإحتكار وتحثّ المؤسّسات المنتجة على تحسين مستوى إنتاجها وتخفيض أسعار السّلع.
إنّما لحريّة التنافس ضوابط تحول دون ممارسة أي أفعال تتخطّى مبادىء الإستقامة وتقاليد الأمانة المفروضة في العلاقات بين التجّار، ومن هنا صعوبة التمييز بين المزاحمة المشروعة وغير المشروعة، الذي ينجم عن طبيعة وسائل المزاحمة المستخدمة بين المتزاحمين، والتي ترتبط الى حدّ بعيد بالعادات التجارية المألوفة، وللقضاء وحده تحديد شرعية هذه الوسائل، لأنّ النصوص التشريعية لم تستطع التنبؤ بكل الظروف الإقتصادية المتأتية، فكان للفقه والإجتهاد دورًٌ بارزٌ في تطوير مفهوم المزاحمة غير المشروعة مواكبةً للتطوّر الإقتصادي وللعولمة.
- مفهوم المزاحمة غير المشروعة في ظلّ النص القانوني والآراء الفقهية والإجتهادية ومعاهدة باريس:
لم يحدّد القانون اللبناني المزاحمة غير المشروعة تحديدًا حصريًا، بالنّظر إلى تشعّب وجوهها، وإلى تعذّر إيجاد تحديد أو تعريف يحيط بالظروف الإقتصادية المتنوّعة، وإنّ إغفال المشترع اعتماد تعريف محدّد للمزاحمة غير المشروعة مردّه إلى صعوبة إعطاء تحديد يستوعب مظاهر المزاحمة غير المشروعة، في مجتمع ليبرالي تتبدّل فيه، ومن خلاله، النشاطات التجارية والصناعية والتسويقية بين عدد لا يحصى من المتزاحمين، لذا، اكتفى المشترع الى الإشارة إليها في المادة 97 من القرار رقم 2385/24 المتعلّق بحماية الملكية التجارية والصناعية بالقول:
"تعتبر مزاحمة غير قانونية:
- كل مخالفة لهذا القرار ينقصها أحد الشروط لتتمكّن من تطبيق العقوبات المنصوص عنها في الكتاب السادس.
- كل عمل يكون للمحاكم حريّة النظر فيه ويظهر لها أنّه من المزاحمة غير المشروعة."
لذا، فإنّ تحديد مفهوم المزاحمة غير المشروعة استلزم الإستنارة بالآراء الفقهية والإجتهادية، فبرز في الفقه أوّل مفهوم تقليدي لها حين اعتبر أنّ المزاحمة غير المشروعة تفترض الإتيان بعمل مزاحمة يهدف إلى جذب زبائن مشتركين بين المزاحم والمشروع الذي تعرّض لتلك المزاحمة وإغرائهم."
أمّا الإجتهاد اللبناني فاتّبع معيارًا واقعيًا وأخلاقيًا في تعريفه للمزاحمة غير المشروعة، معتبرًا أنّ فعل المزاحمة غير المشروعة يتضمّن عنصرًا ماديًا هو الوسيلة غير المشروعة، أي غير المتوافقة مع الأعراف التجارية والأخلاقية وحسن التعامل بين التجار، وعنصرًا معنويًا قوامه السيطرة على السوق التجاري والإستئثار بالزبائن أحيانًا بنية إلحاق الضرر بفئة معينّة من الناس، بصورة مقصودة أو بتوقّع التسبّب بحصول ضرر للغير وقبول المخاطرة.
ونظرًا للجهود الدولية الحثيثة لمنع أعمال المنافسة غير المشروعة، وحماية للملكية الصناعيّة، وضعت إتفاقية باريس المتعلّقة بحماية الملكية الصناعية التي صدّق عليها العديد من البلدان، ومنها لبنان بموجب القرار رقم 152/ل.ر تاريخ 19/7/1939، التي اعتبرت من أعمال المنافسة غير المشروعة كلّ منافسة تتعارص مع العادات الشريفة في الشؤون الصناعية أو التجارية، وحظّرت كافة الأعمال التي من شأنها أن توجد، بأية وسيلة كانت، لبسًا مع منشأة أحد المنافسين أو منتجاته أو نشاطه الصناعي أو التجاري، واعتبرت من الأعمال المحظورة:
- "الإدّعاءات المخالفة للحقيقة في مزاولة التجارة والتي من طبيعتها نزع الثقة عن منشأة أحد المنافسين أو منتجاته أو نشاطه الصناعي أو التجاري.
- البيانات أو الإدّعاءات التي يكون استعمالها في التجارة من شأنه تضليل الجمهور بالنسبة لطبيعة السّلع أو طريقة تصنيعها أو خصائصها أو صلاحيتها للإستعمال أو كميتها".
الشروط الواجب توفّرها لترتيب المسؤولية من جرّاء المنافسة غير المشروعة:
برزت شروط ثلاثة واجبٌ توفّرها، لترتيب المسؤولية من جرّاء المزاحمة غير المشروعة، من خلال النصوص القانونية اللبنانية والآراء الإجتهادية:
الشرط الاول: قيام حالة مزاحمة بين فرقاء النزاع:
حالة مزاحمة بين فرقاء النزاع، وهو يتمثّل بأن يمارس المتنازعون نشاطاً مهنيًا مماثلاً أو متشابهًا أو متقاربًا ولو في بعض جوانبه لجهة السّلع والخدمات المعروضة على المستهلكين، ويمكن أن يكون هذا النشاط تجاريًا، صناعيًا، أو حرفيًا لقاء مقابل، يفترض استقطاب الزبائن.
الشرط الثاني: إرتكاب المنافس فعل مزاحمة غير مشروع:
من المعلوم أنّ النظام الإقتصادي الحرّ يسمح لكل تاجر بأن يلجأ الى الوسائل التي تسهّل له السيطرة على السوق التجارية، والحصول على أكبر عدد من الزبائن، ذلك أنّ استعمال أي حق يجب ألاّ يتجاوز حدودًا معيّنة، وأن يبقى ضمن ضوابط الأعراف التجارية وحسن النية، ولا يمسّ حقوق الآخرين بشكل غير مألوف، وباستعمال وسائل غير مألوفة. وإنّ القانون اللبناني ترك للقضاء مهمة تقويم أعمال المزاحمة وتحديد الأفعال التي يعتبرها مزاحمة غير مشروعة، آخذًا بالمعيار الواقعي والأخلاقي المستند إلى العادات التجارية السليمة، ليعتبر أنّ الخطأ في المزاحمة يتوفّر في كل فعل أو تصرّف يتخطّى حدود الأعراف، والعادات التجارية، ومبادىء الاستقامة، وتقاليد الأمانة المفروضة في العلاقات المختلفة بين التجار أنفسهم، وليس من الضروري أن يقترن هذا الفعل بسوء النية، إذ إنّ فعل المزاحمة غير المشروعة يمكن أن يكون خطأ غير مقصود، ويعتبر متحقّقاً عندما يقدم المنافس على عمل ينطوي على مخالفة للقوانين والعادات ويتضمّن إخلالاً بالمبادىء التجارية.
ومن المجدي أن نطرح بعض المسائل التطبيقية للأفعال التي تعتبر عملاً منافساً وغير مشروع:
- إنّ إدخال البضائع عن غير طريق الممثل التجاري الحصري يشكّل بحدّ ذاته المنافسة غير المشروعة التي من شأنها أن تلحق الضرر بالوكيل، الممثّل الحصري، وتحوّل الزبائن عنه، وتفوّت عليه الربح والفرص العديدة للكسب المادي، ممّا يصبغ هذا العمل المنافس بصبغة العمل غير المشروع.
- واستيراد البضائع المشمولة بعقد التوزيع الحصري المسجّل اأصولاً في السجل التجاري من غير بلد المنشأ يشكّل عملاً غير مشروع، وإنّ تسجيل العقد في السجل التجاري يرتّب مسؤولية على المستورد، ويشكّل قرينة على سوء نيته، لأنّ المستورد يعتبر عالم بوجود وكيل شرعي حصري لهذه البضائع المستوردة، كون مندرجات السجل التجاري مباحة للجميع للإطّلاع عليها.
الشرط الثالث: نشوء ضرر عن هذا الفعل يصيب مصالح التاجر أو المؤسسة المنافسة:
يتجسّد هذا الشرط بحصول ضرر ينجم عن فعل المزاحمة، ويصيب مصالح الممثّل الحصري، ويمكن الإعتداد بالضرر المادي والضرر المعنوي، ويكفي أن يكون الضرر إحتماليًا، لأنّ الهدف في دعوى المنافسة غير المشروعة ليس فقط التعويض عن المتضرر، بل الأهمّ هو وقف الأعمال غير المشروعة المكوِّنة للمنافسة.
وإنّ مجرّد ثبوت الخطأ يغني عن إثبات الضرر، وإنّ الإلتباس الناتج عن وسائل المزاحمة المستعملة دليلاً كافيًا على الضرر الإحتمالي، وليس من الضرورة إثبات حصول الضرر إذا لم يرغب المتضرّر المطالبة بالتعويض، إلاّ أنّ هذا الأمر يبقى ضروريًا لجواز المطالبة بالعطل والضرر.
فبمجرّد ثبوت الضرر الناتج عن أعمال المنافسة غير المشروعة، يحقّ للوكيل الحصري المتضرّر المطالبة بالتعويض عن العطل والضرر المادي والمعنوي اللاّحقين به من جرّاء المنافسة غير المشروعة. ومن شروط الضرر المادي و/أو المعنوي، أن يكون حقيقيًا ومباشرًا ولاحقًا بمصلحة مشروعة يحميها القانون، ومتصلاً بالفعل الذي سببه، ومتى توفّرت هذه الشروط وجب التعويض وأداء بدل العطل والضّرر للممثّل التجاري، وعلى العطل والضرر أن يشمل الخسارة الناجمة عن جرم المنافسة غير المشروعة، والربح الفائت وخسارة الزبائن والفرص، ومن المعلوم أنّ القضاء يأخذ بعين الإعتبار كافة المعطيات التي تدخل في تقدير التعويض، منها الإعتبارات المادية والشخصية التي أحاطت بعملية المنافسة، والتي من شأنها تحديد نسبة الضرر اللاّحق بالوكيل الحصري من جرّاء الأعمال الضارّة.
المزاحمة الإحتيالية وجه من وجوه المنافسة غير المشروعة:
إنّ المزاحمة الإحتيالية وجه من وجوه المنافسة غير المشروعة، إنّما جعلها المشترع جرمًا جزائيًا، وهي تختلف عن دعوى المنافسة غير المشروعة لاختلاف أركانهما وعناصرهما، فالمزاحمة الإحتيالية تتحقّق عند توّفر ركنيها المادي والمعنوي، وإنّ العنصر الأوّل من الرّكن المادي يتمثّل في استعمال وسائل الغش أو الإدّعاءات الكاذبة أو التلميح عن سوء قصد، إلاّ أنّ المشترع لم يحدّد الوسائل الإحتيالية المومأ اليها على سبيل الحصر، لأنّها قد تشمل أوصافاً عديدة، للأفعال والتصرّفات التي قد تأخذ اشكالاً مختلفة، فوسائل الغش تتمثل في استخذام أساليب مادّية لتشويه الحقائق، وتضليل المستهلك. أمّا الإدّعاءات الكاذبة فهي شتّى أنواع الكلام المغاير للحقيقة، والتلميح عن سوء قصد هو أسلوب غير مباشر لإيقاع الضرر بالمجنى عليه، أمّا العنصر الثاني من الرّكن المادي لجريمة المزاحمة الإحتيالية فيتحقّق بمجرّد تحويل زبائن الغير لمصلحة المزاحم.
وإنّ الركن المعنوي لجريمة المزاحمة الإحتيالية يتحقق بتوّفر ثبوت علم المزاحم، بعدم مشروعية عمله، وباتجاه نيته الى ارتكابه رغم ذلك، وهذا ما يعرف بالقصد العام، أمّا القصد الخاص فيتمثّل بثبوت رغبة الفاعل في تحويل زبائن الغير إليه، ويشترط النص الجزائي توفّر سوء نية الفاعل، في حين أنّ هذه الأخيرة ليست شرطأ لازمًا لترتيب المسؤولية، في دعوى المنافسة غير المشروعة المبنيّة على مبدأ الخطأ المدني العام ولو غير المقصود.
الطفيلية الإقتصادية وجه حديث للمنافسة غير المشروعة
أظهرت العولمة، عقب تطوّر الحقول الإقتصادية والتجارية والصناعية والأدبية والفنّية ونموّها، وقيام المشاريع والإستثمارات التي باتت تغطّي العالم بأسره، أنّ الحماية عن طريق دعوى المنافسة غير المشروعة بمفهومها التقليدي لم تعد كافية، فبرزت الحاجة إلى ضرورة تطوير المفاهيم التقليديّة لحماية الملكية الصناعية والتجارية والفكرية. وجاء مفهوم الطفيلية الإقتصادية.
ونظراً لمواكبة القانون الفرنسي للمفاهيم القانونية، برز مفهوم الطفيلية في فرنسا في العام، 1962 حيث اعتبر الإجتهاد الفرنسي إنّ استعمال ماركة "Pontiac" العائدة لمصنع سيارات من قبل مشروع يتعاطى بيع البرادات هو عمل خاطىء، وكذلك في العام 1993 استقرّ الإجتهاد الفرنسي على أنّ إقدام شركة متخصّصة في إنتاج العطورات الفخمة (Y.S.L) على إنتاج زجاجة عطر أطلقت عليها اسم،"Champagne" وغلّفت الزجاجة بغطاء شبيه بالغطاء المميّز لزجاجة مشروب "Champagne" الذي تنتجه شركة مشروبات مشهورة، يشكّل طفيلية إقتصادية، رغم عدم تصوّر حدوث أي خلط أو التباس، تبعًا لاختلاف المشروب عن العطر.
إنّ مفهوم الطفيلية ما لبث أن دخل في المصطلح القانوني في لبنان، فعرّف الفقه الطفيلي بأنّه الذي يتظلّل بأثر الغير مستفيدًا من الجهود التي قام بها هذا الأخير، ومن شهرة الغير وسمعته. وكان للإجتهاد البناني دورٌ بارزٌ في اعتناق مفهوم الطفيلية إنطلاقًا من نص المادة 97 من القرار 2385/24، مقتفيًا أثر الإجتهاد الفرنسي معتبرًا أنّ الطفيلية تخالف مبادىء الإستقامة المفروضة في التعامل التجاري، وقد تتوفّر دون حاجة لأن تقع المنافسة على الزبائن أنفسهم، إذ يكفي أن يهدف الطفيليّ إلى الاستفادة من ماركة مشهورة أو إسم مشهور.
وفي العام 1992، أخذ الإجتهاد اللبناني بهذه النظرية، وطبّقها في دعوى شركة "شمبانيا مويه ايه شاندون" المشهورة عالميًا بإنتاج المشروب، ضد شركة "شاندون باريس" المنتجة لألبسة لانجري نسائية ومحارم، رغم اختلاف نوع السلعتين.
كما استقرّ اجتهاد المحاكم اللبنانية على أنّ استعمال اسم تجاري مشهور بغرض الاستفادة من شهرته، يشكّل تصرّفًا طفيليًا، في كل مرّة يسمح للمستعمل بالإستفادة من دون مقابل من الصيت الذي اكتسبه الغير، بعمل فكري أو مهارة أو استثمارات دعائية، إذ إنّ القيمة الإقتصادية لمشروع إقتصادي ما، تقوم على مهارته التي بفضلها يكتسب شهرة وسمعة، يحاول الطفيلي الاستفادة منها، دون أن يكون قد بذل أي جهود مالية أو فكرية في بلوغها.
وانطلاقاً من وجوب حماية أي مشروع أو نشاط اقتصادي اتّسم بشهرة واسعة ومهارات بارزة وجهود ناجحة، ظهرت نظرية الطفيلية الإقتصادية لتطبّق في أي منطقة من العالم للحدّ من التطفّل الإقتصادي لأنّ التنافس لم يعد يرتدي طابعاً محلياً، تبعاً للتطور التكنولوجي الحاصل، وللعولمة، ولانفتاح الأسواق على بعضها، ولكنّه تأمين للتوازن الإقتصادي بين التجّار والمستهلكين. إنّ وضع قانون حديث ينظّم المزاحمة غير المشروعة بكافة أوجهها يبقى ضرورة لمواكبة التطوّر الإقتصادي في العالم.