شهدت الرياضة في القرن الواحد و العشرين تطوّراً ملحوظاً.ولم تعد الرياضة كماليّة إنّما أصبحت أسلوب ونمط عيش وتعبير عن ثقافة وتعكس مستوى الرقيّ في البلد.كما أنّها لم تعد تنحصر ضمن إطار الكرة و الملعب ولم تعد مجرّد تدريبات جسديّة تهدف ُ إلى التربية البدنيّةوتخطّت الدور التقليدي التي اعتادت عليه وأصبحت صناعةً قائمةً بحدّ ذاتها ولها دور إقتصادي في غاية الأهميّة.
نجح القيّمون على الرّياضة بتحويلها إلى صناعةٍ حقيقيّةٍ تكاد تتفوّق على معظم الصناعات كذلك هنالك عددٌ ليس بالقليل من الدّول إقتصادهم مبني على صناعة الرياضةSPORTS INDUSTRY لأنّها اهتمّت بها وأعطتها الأولويّة.
من هنا نجد تسابقاً شرساً بين جميع بلدان العالم على من يستضيف أكبر عدد من البطولات الرياضيّة سنويّاً بالإضافة إلى الحدث الأكثر أهميّةً وهو الأولمبياد بسبب المكاسب العديدة التي تحصلُ عليها هذه ِ الدول.
إنّ كل ّ هذه العوامل دفعت إلى تأسيس علم القانون الرياضي من خلال الإتّفاقيّات الدوليّة و الميثاق الأولمبي للجنة الأولمبيّة الدوليّة OLYMPIC CHARTER ،فضلاً عن التعليمات و الضوابط الرياضيّة لمختلف الألعاب الخاصّة بالإتحادات الرياضيّة الدوليّةI.O.C. إلى جانب الوكالة الدوليّة لمكافحة المنشطات W.A.D.A..
وممّا لا شكّ فيه أنّ العقود الرياضيّة لها خصوصيّة وأهميّة كبيرة تختلف عمّا تتميّز به مختلف العقود المدنيّة والتجاريّة بالرّغم من وجود قواعد مشتركة بين هذه العقود.ولهذا فإنّ حلّ المنازعات الرياضيّة و ما ينتج عن مشكلات عن العقد الرياضي إلى جانب كثرة المنازعات الرياضيّة يحتاج ُ دون شكٍّ إلى قضاءٍ رياضيٍّ مختصّ.
كما أنّ النزاع الذي ينجم ٌ عن العلاقات الرياضيّة هو بدوره بحاجة إلى قضاء متخصّص و مختلف عن القضاء العدلي العادي من حيث ٌ مضمونه والإجراءات المتّبعة فيه و طبيعتهٌ القانونيّة و القرارات التي تتّخذ في شأنهِ،علماً أنّ هذا القضاء حديث النشأة في بعض الدول.من هنا نقول أنّ النزاع الرياضي هو ذلك النزاع الذي يحدث في مجال الرياضة و قد تكون المنازعة داخليّة كما تكون دوليّة.كما أنّ النزاعات الرياضيّة قد تأخذُ بعداً آخر لا يقتصر على ممارسة اللّعبة الرياضيّة وإنّما يتعلّق النزاع بإدارة و إشراف و تنظيم الأنشطة الرياضيّة و تنظيم العقوبات التي تفرضها الاندية و الإتحادات الرياضيّة على اللّاعبين و المدرّبين و الحكّام و النزاعات التي تتعلّق ُ بعقود الرياضة كعقد الإحتراف والإنتقال و عقد الرعاية الرياضيّة إلخ...
و نظراً لما تواجهه ُ الساحة الرياضيّة من مشاكل و خلافات فإنّ الحاجة قد أصبحت ملحّة لوجود نظام خاص ومتخصّص للفصل بين الاطراف المتنازعة في مجال الرياضة،و إيجاد الحلول التي تقدّم آليّة ثابتة مستمدّة من القوانين لتحمي الساحة الرياضيّة من لجوء الرياضيين إلى المحاكم العدليّة المدنيّة.كما و أنّ كثرة المنازعات وتعدّدها و تشعّبها بالتزامن مع التطوّر الذي يشهده القانون الرياضي دفع لإنشاء محاكم خاصّة متخصّصة على المستوى الوطني و الدّولي للفصل في مختلف المنازعات الرياضيّة و هو ما اصطلح عليه بمحكمة التحكيم الرياضيّة سواء الوطنيّة أو الدوليّة.
إنّ معظم الإتحادات الرياضيّة الدوليّة،واللّجنة الأولمبيّة الدوليّة إلى جانب الوكالة الدوليّة لمكافحة المنشّطات تجبر الإتحادات الدوليّة على تضمين شرط التحكيم في قوانينها الاساسيّة إذ تمنع اللّجوء للقضاء العادي الوطني وتعتبر المحكمة الرياضيّة الدوليّةCOURT OF ARBITRATION FOR SPORTS المحكمة العليا للرياضة العالميّة ولها نظام خاص للفصل في المنازعات.
إنّ ما تقّدمنا بذكرهِ لا ينفي حقيقيةً أنّ لبعض المنظّمات الرياضيّة صيغها في التقاضي بشأن المنازعات الرياضيّة القانونيّة و اتخاذ القرار ،إذ نشيرُ بذلك إلى الفيفا FIFA .حيث تمارس الفيفا صلاحيّات قانونيّة وقضائيّة غير قليلة من خلال لجان و هيئات متخصّصة اهمّها:
- لجنة الإنضباط THE DISCIPLINARY COMMITTE.
- لجنة الإستئناف THE APPEALS COMMITTEE .
- لجنة الأخلاق :حيث وضعت جملة ٌ من الإلتزامات الأخلاقيّة و رتّبت آثاراً على مخالفتها ونصّت عليها في DISCIPLINARY CODE. و آخر تعديل لهُ جاءَ في 15 تمّوز 2019.
- قضاء التحكيم الرياضي.
- غرفة فض المنازعات.
ولكّل من اللّجان و الهيئات المذكورة مهام حدّدتها المواثيق الرياضيّة،والنّظام الأساسي للفيفا،علماً أنّ بعض هذه ِ القرارات قابلة للإستئناف لدى قضاء التحكيم الرياضي الدولي .
وبالتالي يمكن القول أنّ النشأة الحديثة لهذا النّوع من محاكم التحكيم كان لا بدّ أن يرافقهُ مجموعة من القواعد و الإجراءات تتّبع أمامها للفصل في المنازعات المرفوعة أمامها،لكن ما زال الأمر مبهماً و غامضاً و أمراً مجهولاً بالنسبةِ للكثيرين بل حتّى بالنسبة لرجال القانون وهذا ما جعلنا نتناول هذا الموضوع لما له من أهميّة باعتبار التحكيم الرياضي طريق بديل لحل ّ المنازعات في المجال الرياضي على المستوى الوطني و الدولي.
يستفاد من كلّ ذلك أنّ النزاع الرياضي يخرجُ من النظام الداخلي فيصبح ذات طبيعة دوليّة ممّا يستوجب تطبيق قواعد قانونيّة عديدة و مختلفة. لذا كان لا بدّ من إيجاد جهة متخصّصة للفصل في مثل هذه النزاعات.
- فما المقصود بالتحكيم؟
- ومن هي الجهة المولجة بالتحكيم الرياضي؟
- وما مدى فعاليّة الأحكام التي تصدرها في مجال فضّ النزاعات الرياضيّة؟
أوّلاً: تعريف التحكيم .
في البداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التحكيم هو نظام قانوني يقوم على إتفاق الأطراف على عرض النزاع على المحكّمين للفصل فيه.فلا تحكيم من دون إتفاق.ولقد عالج القانون اللّبناني التحكيم في الكتاب الثاني من قانون أصول المحاكمات المدنيّة من المادة 672 حتّى المادة 821 من قانون أصول المحاكمات المدنيّة.
وقد أقرّ المشترع اللّبناني بتميّز التحكيم الدولي عن التحكيم الداخلي.وأفرد له قسماً خاصّاً (القسم الثاني) حيثُ نصّت المادّة 809 من قانون أصول المحاكمات المدنيّة على أنّه ُ يعتبر دوليّاً التحكيم الذي يتعلّق بمصالح التجارة الدوليّة.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّهُ يجب عدم تفسير ما تضمّنتهُ المادّة 809 م.م.تفسيراً حرفيّاً ضيّقاً فعبارة التجارة لا تعني فقط التجارة بمفهومها التقليدي بل تشمل كلّ ما يتعلّق بحركة المبادلات و الإستثمار والخدمات المرتبطة بمصالح إقتصاديّة.
ثانياً:محكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة COURT OF ARBITRATION FOR SPORTS. THE
أ -التعريف بقضاء التحكيم الرياضي و أصوله التاريخية.
إنّ محكمة التحكيم الرياضي )CAS( تعتبر الذراع الأساسي لعمل المجلس الدولي للتحكيم الرياضي في فضّ المنازعات )ICAS( وهي هيئة شبه قضائيّة دوليّة أنشِئت لتسوية النزاعات المتعلّقة بالرياضة ويقع مقرّها الرئيسي في مدينة لوزان في سويسرا.
وترجع أصولها التاريخيّة إلى بداية الثمانينات حيثُ كانت هناك زيادة منتظمة في عدد النزاعات الدوليّة المتعلّقة بالرياضة ولم تكن هنالك سلطة مستقلّة متخصّصة بحلّ النزاعات الرياضيّة و مخوّلة بإصدار احكام ملزمة.
وعام 1981 بعد إنتخاب )H.E.JUAN ANTONIO SAMARANCH( رئيساً للّجنة الأولمبيّة الدوليّة THE INTERNATIONAL OLYMPIC COMMITTEE .كانت لديه فكرة إنشاء سلطة قضائيّة متخصّصة في الرياضة و مشاكلها.وفي السنة التالية وفي اثناء جلسة اللّجنة الأولمبيّة الدوليّة التي انعقدت في روما قام عضو اللّجنة القاضي (KEBA MBAYE)،والذي أصبح فيما بعد قاضياً في محكمة العدل الدوليّة ،يترأس فريق عمل تكمن مهمّتهُ في إعداد تشريعات خاصّة والتي تصبح فيما بعد محكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة،وقامت اللّجنة الأولمبيّة الدوليّة بالتصديق رسميّاً على الأنظمة الأساسيّة لمحكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة و التي اصبحت نافذة المفعول في 30/06/1984 .
ثمّ حصلت إصلاحات عدّة طالت محكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة أوّلها عام 1994 و الثاني خلال إتفاقيّة باريس،وكان آخر تعديل لقوانين التحكيم الرياضيّة و قواعد الوساطة و مكافحة المنشّطات لمحكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة في 1 تمّوز من العام 2020.CODE OF SPORTS -RELATED ARBITRATION AND MEDIATION RULES THE COURT OF ARBITRATION FOR SPORT.CODE OF SPORTS-RELATED ARBITRATION IN FORCE AS 1 JULY 2020 .
وأهمّ التعديلات تركزت حول إضافة اللّغة الإسبانيّة كلغة رسميّة معتمدة إلى جانب اللّغتين الفرنسيّة والإنجليزيّة. والتأكيد على قانونيّة المحاكمة الإلكترونيّة والتبليغ الإلكتروني تسهيلاً للإجراءات بسبب جائحة كورونا.
ب-إختصاص محكمة التحكيم الرياضي.
يدخل ضمن إختصاص محكمة التحكيم الرياضيّ. THE COURT OF ARBITRATION FOR SPORT النظر في جميع النزاعات الخاصّة بالمسابقات و الأحداث الرياضيّة، كما تستطيع القيام بتسوية النزاعات الرياضيّة عن طريق الوساطةMEDIATION. ، هذا ما أكّدت عليه الفقرة الثانية من المادّة 28 من قانون التحكيم الرياضي حيث جاء في مضمونها:"تستطيع المحكمة أيضاً أن تتوصّل إلى حلّ النزاعات المتعلّقة بالرياضة عن طريق الوساطة..."والوساطة إجراء يسبق التحكيم و هو طريق ودّي وحبّي ملزم يلجأ إليه لتسوية النزاعات الرياضيّة المتعلّقة بالعقود التجاريّة المتّصلة بالرياضة.وتكون فقط في حالات الإجراءات العاديّة التي تكون أمام محكمة التحكيم الرياضي دون إجراءات الإستئناف الخاصّة بالقرارات التي تصدر من طرف الهيئات القضائيّة الرياضيّة كما أنّ هناك أنواعاً محدّدة من النزاعات لا تقبل فيها الوساطة.كما تتمتّع محكمة التحكيم الرياضي باختصاصات إستشاريّة لكنّها غير ملزمة تتعلّق بمسائل قانونيّة لها علاقة بالرياضة وذلك بناءً على طلب اللّجنة الأولمبيّة الدوليّة أو الإتحادات الدوليّة للألعاب الرياضيّة أو اللجان الأولمبيّة الوطنيّة.ومن المهم الإشارة غلى أنّ قضاء التحكيم الرياضي يمكن أن ينعقد بشكل مؤقّت غير دائم في المباريات الأولمبيّة أو الأحداث الرياضيّة الكبرى.
وتتألّف محكمة التحكيم الرياضي من قسمين: قسم التحكيم العادي THE ORDINARY ARBITRATION وقسم التحكيم الإستئنافي. وهذا ما أكّدت عليه المادّة 20 من قانون التحكيم الرياضي. CODE OF SPORTS-RELATED ARBITRATION AND RELATED RULE.
ولتوضيح ذلك نبيّن ما يلي:
*قسم التحكيم العادي DIVISION THE ORDINARY ARBITRATION
ويتكوّن من مجالس مهمّتها حلّ المنازعات المحالة إليها،وتعمل من خلال رئيسها أو نائبه على أداء مهامها الخاصّة بالتطبيق السّليم للإجراءات وفقاً للقواعد الإجرائيّة المنصوص عليها في المادّة R27 و ما يليها من لقوانين التجكيم الرياضيّة و قواعد الوساطة و مكافحة المنشّطات لمحكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة .CODE OF SPORTS -RELATED ARBITRATION AND MEDIATION RULES وتحال إليه المنازعات التي تتعلّق بحقوق اللّاعبين،أو حقوق النقل التلفزيوني أو خلاف حول حقوق أو إلتزامات أو غيرها...
*قسم التحكيم الإستئنافيTHE APPEALS ARBITRATION DIVISION
و يتكوّن من مجالس مهمّتها حلّ المنازعات الخاصّة بالقرارات الصادرة عن الإتحادات و المنظّمات الرياضيّة المختلفة،بشرط أن تكون اللّوائح المرعيّة في تلك الإتحادات والنظّمات الرياضيّة تسمح بذلك (أي باستئناف قراراتها.)أو متى كانت هناك إتفاقيّة معيّنة تنصّ على الإستئناف.(المادّة 20/ب1).
أمّا بالنسبة لمهلة الإستئناف ففي غياب النّص في القوانين أو لوائح الإتّحادات أو في إتفاق لاحق على التحكيم فإنّ المهلة تكون 21 يوماً من تاريخ تبليغ القرار المراد إستئنافهُ.(راجع المادة 49 R).
ثالثاً:القوّة الإلزاميّة للأحكام التي تصدرها محكمة التحكيم الرياضيّة.
إنّ الحكم الذي يصدرُ عن محكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة يجب أن يكون مكتوباً و مؤرّخاً و موقّعاً عليه،يكون ملزماً للطرفين مع الإشارة إلى أنّهُ نادراً ما ينجح الإستئناف وإذا ما نجح يكون مقتصراً على الأمور الإجرائيّة دون أن يتعلّق الأمر بالموضوع.
الحكم المبلّغ من قضاء التحكيم الرياضي هو نهائي و ملزم للطرفين، وإذا رفض احد الأطراف تنفيذه ُ يمكن للطرف الآخر تنفيذهُ جبراً وفقاً لإتفاقيّة نيويورك لعام 1958 الخاصّة بالإعتراف و تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبيّة وفي هذا الإطار فإنّ قراراتها ذات فاعليّة دوليّة و قوّة قانونيّة فهي واجبة التنفيذ وتخضع قرارات محكمة التحكيم الرياضي وفقاً لهذه الإتفاقيّة إلى القواعد الداخليّة في الدولة المطلوب تنفيذها.
الخلاصة.
إذا كان التحكيم بشكلٍ عام وسيلة لحلّ النزاعات فإنّ المنازعات الرياضيّة تتميّز بخصوصيّة فكان من اللّازم إنشاء جهة قضائيّة مختصّة تسند إليها مهمّة الفصل في مثل هذه النزاعات دون سواها مع ضرورة الإعتماد على العنصر البشري المتخصّص الذي له الدراية الواسعة في هذا المجال.كما أنّ النزاع الرياضي يخرج من النظام الداخلي فيصبح ذات طبيعة دوليّة.هذا ما فرض تطبيق قواعد عديدة و مختلفة ،وبموجب وسيلة فعّالة و سريعة للفصل فيها ،ألا و هي محكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة الموجود مقرّها بسويسرا.
إنّ القضاء الرياضي هو قضاء حديث النشأة يختصّ بالفصل في النزاعات التي تحدث بين الفيفا أو من أعضاء الفيفا والإتحادات الوطنيّة و الهيئات الرياضيّة و الأندية و الممثّلين الإداريين و اللّاعبين ووكلائهم.
إذأً نستنتج أنّ محكمة التحكيم الرياضيّة الدوليّة نشأت عندما لم يستطع القضاء العادي أن يكون قادراً على إيجاد الحلول الخاصّة بالنزاعات الرياضيّة التي خرجت غلى طابع العالميّة.والهدف من إنشائها إيجاد قضاء مختصّ ومستقلّ لا يخضع لأّيّة منظّمة.بالإضافة لضمان سريّة وسرعة المحاكمة.