بتاريخ 2020/8/26 صدر التعميم رقم 154 عن حاكم مصرف لبنان، فأثار في حينه وما يزال عاصفة من الانتقادات الاقتصادية، المالية والقانونية.
يطلب التعميم من المصارف اللبنانية " حث " عملائها، الذين قاموا بتحويلات تفوق قيمتها الخمسماية الف دولار اميركي او ما يوازيها بالعملات الاجنبية الى الخارج منذ اول تموز2017، على اعادة 15 % من القيم المحولة وايداعها في " حساب خاص " مجمد لمدة خمس سنوات. اما اذا كان العميل المعني احد رؤساء أو اعضاء مجالس ادارة المصارف أو احد كبار المساهمين فيها، أو احد الاشخاص " المعرّضين سياسيا "، اي الذين يشغلون مناصب تنفيذية أو تشريعية أو ادارية عليا في الدولة، فتصبح النسبة التي يقتضي اعادتها وتجميدها لمدة خمس سنوات 30% من قيمة التحويلات التي تمت الى الخارج.
تلقفت الاوساط المصرفية بايجابية هذا التعميم، فأعتربت جمعية مصارف لبنان ان "حاكم البنك المركزي يعي تماما تفاصيل التعميم واهدافه وحيثياته وبالتالي هو متاكد من قانونيته تماما، اما المصارف فيقتصر دورها على تطبيق التعميم عبر التمني على كبار عملائها وجوب استرجاع النسبة المذكورة من الاموال المحولة، واذا لم يفعلوا، عندها تبلغ مصرف لبنان بالامر".
ورأت الجمعية انه " مع هذا التعميم ستتكشف الامور لمن اتهم المصارف ولا يزال، بتهريب الاموال الى الخارج، ومن حوّل امواله سيعيد 30 % منها الى لبنان وهي نسبة غير ضئيلة، وستعود الى الشخص ذاته بحساب خاص به".
شن البعض حملة شعواء على التعميم المذكور لانه استخدم تعبير" حث" ؛ ما يعني ان الموضوع ليس جديا وقد لا يتحقق أو انه سيتم بالتراضي وبطريقة استنسابية بالتواطؤ بين مصرف لبنان من جهة والمصارف وكبار المودعين ( مثل السياسيين ) من جهة أخرى. كما تساءلوا عن الفوائد التي ستدفع مقابل الاموال المستعادة، وهل سنكون امام هندسة مالية جديدة، على غرار الهندسات السابقة التي استخدمها حاكم مصرف لبنان للحصول على السيولة اللازمة لتمويل الدولة المفلسة، مقابل فوائد باهظة استفادت منها المصارف ؟ والسؤال الاهم من اين سيدفع مصرف لبنان هذه الفوائد بعد خمس سنوات ، وهل سيكون الدفع من اموال المودعين المحتجزة ارصدتهم في المصارف منذ نهاية العام 2019 !؟ وأضاف هذا البعض ان هذا التعميم يهدف بالدرجة الاولى الى مكافأة مهربي الاموال الى الخارج، عبر منحهم فرصة العودة الى السوق اللبناني مقابل اغراءات.
لقد اعترضت جمعية تجار بيروت على التعميم، فطلبت توضيح ما اذا كان يقتصر على التحويلات من الحسابات الخاصة، وهذا برأيها يشكل اجراءا غير قانوني، او انه يشمل ايضا التحاويل المنفذة لاغراض تجارية بموجب عقود وفواتير واعتمادات مستندية ومسددة للموردين ؟ مضيفة بان وقعه سيكون كارثيا وسيشكل ضربة قاضية على الوضع المالي للشركات العاملة في لبنان، التي اصيبت بالخسارات المتوالية، واحتفظت بدورتها المالية المتهاوية في حساباتها المحلية في لبنان لاطفاء هذه الخسائر وقد رفض المستوردون ان يشملهم التعميم ببند يفرض اعادة نسبة 15 % من الاعتمادات المستندية التي فتحوها خلال السنوات الثلاث الماضية الى النظام المصرفي ليتم تجميدها لمدة خمس سنوات، خصوصا وان هذه التحويلات تمت مقابل شراء بضائع، فلا يمكن عدها عمليات تحويل ودائع الى الخارج لتطالب المصارف باستعادتها.
يطرح هذا التعميم عدة مسائل قانونية، سنعالجها تباعا.
اولا: الطبيعة القانونية للتعميم
يخضع المصرف المركزي لقانون انشائه اي لقانون النقد والتسليف، كما وللنصوص التنظيمية الصادرة تطبيقا له. لدى مراجعة هذا القانون يتبيّن لنا ان مصرف لبنان " شخص معنوي من القانون العام "، ما يفيد انه ليس " مؤسسة عامة " أو " مصلحة مستقلة " فهو لم يحظ من المشترع بالوصف الذي منحه هذا الاخير للمؤسسات العامة التي انشأها وربط كلا منها بوصاية وزارة معيّنة؛ ذلك لان المشترع وحّد منذ العام 1959 نظام المؤسسات العامة ووضع نظاما عاما لها؛ فعندما أنشىء المصرف المركزي عام 1963، كان المرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 1959/6/12 يحكم تنظيم المؤسسات العامة التي كان يطلق عليها حينذاك تسمية "المصالح المستقلة ". ان مقارنة سريعة بين احكام هذا المرسوم الاشتراعي والاحكام التي أنشىء بموجبها المصرف المركزي تكفي ليس فقط للتأكيد على استحالة إدخال مصرف لبنان ضمن اطار النظام العام للمؤسسات العامة، بل للتأكيد على ان تنظيم وسير عمل مصرف لبنان لا يتوافقان مع قواعد المؤسسات العامة.
نشير في هذا المجال الى بعض الفوارق الاساسية بين المصرف المركزي والمؤسسات العامة التي من شأنها ان تستبعد توصيف المصرف المركزي كمؤسسة عامة. ففي حين ان المصرف المركزي يتمتع باستقلالية شبه تامة ويخضع لرقابة بسيطة وليس لوصاية وزارة المالية، فان نظامه يختلف ايضا عن نظام المؤسسات العامة، التي منحت هذه الصفة بموجب قانون انشائها، اذ انه يعتبر بموجب قانون إنشائه " شخصا معنويا من القانون العام " وليس مؤسسة عامة. ولا بد من الاشارة هنا الى انه يوجد اشخاص معنويون من القانون العام لا يشكلون اطلاقا مؤسسات عامة. مثال ذلك " الغرف التأديبية " في فرنسا التي هي اشخاص معنوية من القانون العام وليست مؤسسات عامة.
ان عناصر تكوين المصرف المركزي لا تجعل منه مؤسسة عامة مستقلة تتمتع بالشخصية المعنوية Autorité publique indépendante, [1]API ، فهل ينفي ذلك رقابة القضاء عليه ؟
ثانيا: رقابة القضاء على تعاميم حاكم مصرف لبنان
أ ـ في الاختصاص
ان مصرف لبنان وفقا للمادة 13 من قانون النقد والتسليف هو من اشخاص القانون العام وهو من المؤسسات التجارية والصناعية غير الادارية التي تتمتع بطبيعة قانونية خاصة، اذ ان النظام العام للمؤسسات الصادر بالمرسوم 4517/72 نص في مادته الاربعين، انه يبقى خاضعا لقانون انشائه وللنصوص التنظيمية الصادرة تطبيقا له.
ان الطبيعة القانونية الخاصة لمصرف لبنان لا ترفعه الى مصاف السلطة المستقلة ذلك ان السلطات الدستورية الثلاث محددة حصرا في الدستور، ما يبقيه في إطار اجهزة الدولة التي تمارس رقابتها عليه بواسطة وزارة المالية. وهو يبقى خاضعا لرقابة القضاء الاداري فيما يتعلق بالقرارات الادارية التي يتخذها ازاء المؤسسات المصرفية والمالية الخاضعة لرقابته[2] .
ب ـ في الصفة والمصلحة
نصّت المادة 106 من نظام مجلس شورى الدولة، انه لا يقبل طلب الابطال بسبب تجاوز حد السلطة الا ممن يثبت له مصلحة شخصية مباشرة ومشروعة في ابطال القرار المطعون فيه. ولا يقبل الا ممن كان صاحب مصلحة وفي حالة قانونية خاصة أثر فيها القرار المطلوب ابطاله تأثيرا مباشرا وأكيدا.
فهل تكون للعملاء الذين طالهم التعميم رقم 154 الصفة والمصلحة للتقدم بمراجعة ابطاله امام مجلس الشورى ؟
لا بد بادىء ذي بدء من الاشارة الى ان القرار القابل للطعن امام مجلس شورى الدولة يجب ان يكون قرارا نافذا وضارا. وهذا ينطبق على التعميم رقم 154، ما يجعله قابلا للطعن[3] .
وانه من الثابت ان اجتهاد القضاء الاداري يميل الى كثير من التساهل والتوسع في اعتبار المصلحة متوافرة لاجل قبول مراجعة الابطال، فتكون المصلحة مادية او معنوية. وهذا ما هو متوافر هنا اذ ان للعملاء مصلحة مادية ومعنوية في آن واحد. ويجب ان تكون المصلحة حتما ودائما شخصية ومشروعة وهذا ما هو متوافر في التعميم رقم 154، لا سيما وان طبيعته القانونية الناهضة من موضوعه هي تنظيمية[4] .
فما هي المخالفات القانونية التي تضمنها التعميم رقم 154 ؟
ثالثا: المخالفات القانونية التي تضمنها التعميم رقم 154
أ ـ مخالفة قانون الننقد والتسليف
لقد استند التعميم الى المادتين 174 و175 من قانون النقد والتسليف، لتبرير اصداره. اذا عدنا الى المادتين المذكورتين فإنه يتبيّن لنا انه يتوجب على الحاكم اتخاذ القرارات التي من شأنها تأمين حسن سير علاقة المصارف بمودعيها وعملائها. ولكن لا يعود له فرض قيود عليهم. وانه يعود له فقط تحديد النسب التي يرى انه من الواجب توافرها بين الموجودات والمطلوبات؛ اي ليس له ان يلزم فرض اعادة مبالغ قد جرى تحويلها في حينه بشكل قانوني ووفقا للقواعد والاعراف المصرفية المتبعة منذ انشاء المصارف في العام 1963. وبما انه اقدم على ذلك، فان الامر يشكل تعديا على حرية نقل وانتقال الاموال.
وللاستفاضة في البحث، فان المادة 174 من قانون النقد والتسليف تنص على ما يلي:
" للمصرف المركزي صلاحية اعطاء التوصيات واستخدام الوسائل التي من شأنها ان تؤمن تسيير عمل مصرفي سليم.
" يمكن ان تكون هذه التوصيات والوسائل شاملة او فردية.
" وللمصرف المركزي بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان ان يضع التنظيمات العامة الضرورية لتامين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها.
" كما ان له ان يحدد ويعدل كلما رأى ذلك ضروريا، قواعد تسيير العمل التي على المصارف ان تتقيد بها حفاظا على حالة سيولتها وملاءتها".
وتنص المادة 175 من قانون النقد والتسليف انه " بغية تامين سلامة العمل المصرفي، للمصرف المركزي ان يحدد بين الحين والاخر بشكل عام او لكل مصرف على حدة النسب الواجب توافرها بين الموجودات والمطلوبات او بين بعض عناصر الموجودات هذه والمطلوبات فيما بينها الخ".
نعود لطرح السؤال الاساسي، هل ان ما ذهب اليه حاكم مصرف لبنان في تعميمه رقم 154 يدخل في اطار " التوصيات"، المحكى عليها في المادة 174 ام في اطار " الانظمة والتعليمات " المحكى عليها في المواد 175 و176 و 177؟
نحن نرى بان المشترع في قانون النقد والتسليف اعتمد سياسة التحديد التشريعي الواضح عندما اراد اخضاع بعض الحالات لانظمة وتعليمات مصرف لبنان، كتحديد النسب الواجب توافرها بين الموجودات والمطلوبات في المادة 175. وذهب في تحديده الى أبعد من ذلك في المادتين 176 ، 177 حيث أكد في المادة 176 ان " الاحكام " التي تصدر بموجب المادة السابقة ( المادة 174) لا يمكن ان تكون " فورية التطبيق او رجعية المفعول "، بل يحدد المصرف المركزي في " التعليمات " التي يوجهها الى المصارف بهذه المناسبة المهلة ...كما يحدد الاصول ...".
وفي سياق سياسة التحديد ايضا، أكد في المادة 177 على وجوب تحديد معنى بعض العبارات في " الانظمة والتعليمات" التي يضعها تطبيقا لهذا القانون ( قانون النقد والتسليف ).
نفهم من كل ذلك، ان مصرف لبنان لا يمكنه ان يضع " انظمة " و " تعليمات " الزامية الا في مواضيع محددة حددها له المشترع في قانون النقد والتسليف او في قوانين اخرى ذات صلة.
ان مسألة "حث " عملاء المصارف على اعادة 15 % من القيم المحولة وايداعها في حساب خاص مجمد لمدة خمس سنوات، ليست من المواضيع المحددة التي ادخلها قانون النقد والتسليف ( او سواه ) ضمن "ا لانظمة " أو " التعليمات " الصادرة عن المصرف المركزي والملزمة للمصارف، بل هي تدخل في نطاق " التوصيات " المنصوص عنها في الفقرة الاولى من المادة 174 من قانون النقد والتسليف؛ و " التوصيات" ـ كما نعلم جميعا ـ ليست ملزمة بل تبقى في اطار " النصائح " اذا صح التعبير، يمكن اتباعها او رفضها في كل قضية على حدة، اي انه لا يوجد قاعدة حل عامة مطلقة والزامية، بل مجرد توصية، يعمل بها ام لا في كل حالة على حدة.
ب ـ مخالفة قاعدة عدم الرجعية
تبقى عدم الرجعية هي القاعدة، فلا يصح الخروج عنها الى الاثر الفوري او رجعية المفعول الا بنص صريح، او لاسباب قانونية مبررة، وهي غير متوافرة في حالتنا الحاضرة؛ فالتعميم رقم 154 طلب من المصارف اللبنانية " حث " عملائها الذين قاموا بتحويلات الى الخارج تفوق قيمتها الخمسماية الف دولار اميركي او ما يوازيها بالعملات الاجنبية " منذ اول تموز 2017 " على اعادة 15 % من القيم المحولة وايداعها في حساب خاص مجمد الخ. فلا توجد اي اسباب مبررة لاضفاء الطبيعة الرجعية عليه.
الى جانب هذه القاعدة العامة، نجد ان المادة 176 من قانون النقد والتسليف تنص صراحة " ان الاحكام التي قد تصدر بموجب المادة السابقة ( 175 ) ، لا يمكن ان تكون فورية التطبيق او رجعية المفعول، بل يحدد المصرف المركزي في التعليمات التي يوجهها الى المصارف بهذه المناسبة المهلة التي سيبدأ بنهايتها تطبيق النسب المقررة كما يحدد الاصول التي تحسب هذه النسب بموجبها ".
نبدي انطلاقا من هذا النص ملاحظتين:
الملاحظة الاولى: ان المشترع في قانون النقد والتسليف اعتمد التوضيح والتحديد، فقد اكد في المادة 176 اعلاه ان " النسب الواجب توفرها بين الموجودات والمطلوبات او بين عناصر الموجودات هذه والمطلوبات فيما بينها "، يحددها مصرف لبنان فقط بالنسبة للمستقبل و " لا يمكن ان تكون فورية التطبيق او رجعية المفعول".
هذه المادة ـ وان كان مضمونها بعيدا عن مضمون التعميم رقم 154 ـ فان نهج صياغتها يفيدنا بان المشترع في قانون النقد والتسليف لم يعتمد لا رجعية النصوص ولا حتمية تطبيقها بل اعتمد مبدأ عدم الرجعية.
الملاحظة الثانية: اذا كان المشترع في قانون النقد والتسليف لم يعتمد رجعية النصوص وحتمية تطبيقها بالنسبة للاحكام الملزمة والتي اجاز للمصرف المركزي اصدارها، فبحجة أولى a fortiori لا يمكن اطلاقا اعتماد رجعية النصوص او حتمية تطبيقها بالنسبة للتوصيات التي اجاز للمصرف المركزي اصدارها ؛ كما هي حالة التعميم 154 لجهة عدم الزامية المصارف لعملائها على اعادة 15 % من القيم المحولة الخ، بل مجرد " حثهم " على ذلك.
ج ـ مخالفة قاعدة هرمية القواعد القانونية
لا يمكن لحاكم مصرف لبنان ان يصدر تعاميم تشكل خرقا للقواعد القانونية التي تسمو عليها، فان كان يتمتع بسلطة تنظيم القطاع المصرفي، الا انه يجب ان تبقى سلطته ضمن الحدود المرسومة له قانونا، فلا يصح ان تعدل التعاميم الصادرة عنه النصوص التشريعية او الدستور او المواثيق الدولية والمعاهدات ، لان تعاميمه هي مجرد قرارات ادارية، أدنى مرتبة من النصوص التشريعية، فلا يجوز لها ان تخالفها او تخالف القواعد القانونية التي تسمو عليها.
الا ان ما تجدر الاشارة اليه انه حتى مجلس النواب ـ ولو صادف وشّرع نصا كنص التعميم رقم 154 ـ فانه سيبقى قابلا للطعن امام المجلس الدستوري لمخالفته الدستور اللبناني ومقدمته ؛ الامر الذي يطرح التساؤل الجدي عن مدى دستورية تشريع قانون الكابيتال كونترول.
ان مجلس النواب لا يمكنه اصدار قوانين غير متوافقة مع الدستور اللبناني والا ستمسي تحت رقابة المجلس الدستوري.
ان نص التعميم رقم 154 مخالف للدستور في الامكنة التالية:
ـ لانه يحد من الحرية الاقتصادية ويمس الملكية الفردية، خلافا للفقرة " واو " من مقدمة الدستور، التي كرست مبدأ الليبرالية، بحيث ان نظامنا الاقتصادي حر يكفل المبادرة الفردية ويحمي الملكية الخاصة، التي هي " بحمى القانون" بحسب نص المادة الثالثة عشرة من الدستور.
ـ لمناقضته ديباجة الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تعهدت الدول ـ ومنها لبنان ـ بموجبه على تعزيز الاحترام ومراعاة حقوق الانسان الاساسية وحرياته وعدم تقيدها، كما واحكام الفقرة الثانية من المادة الاولى من الجزء الاول منه، اقرت لجميع الشعوب الحق بالتصرف الحر بثرواته كافة.
ـ لمناقضته ديباجة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لا سيما لناحية تعهد الدولة اللبنانية بتمكين كل انسان من التمتع بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية.
د ـ " السطو " على اموال المودعين
قبل الدخول في تفاصيل " السطو " لا بد من التذكير بان التعميم رقم 154 يطالب المصارف بحث عملائها ـ اي المودعين ـ الذين قاموا بتحويل ما يفوق مجموعه 500 الف دولار اميركي او ما يوازيه بالعملات الاجنبية الى الخارج ، على اعادة جزء من اموالهم، بما يوازي نسبة 15 % من القيمة المحولة. كما يطالب مصرف لبنان ـ بموجب التعميم عينه ـ "المعرضين سياسيا" ( وهم الاشخاص الذين يشغلون مناصب سياسية عامة او وظائف عليا، مثل رئيس الدولة ومستشاريه ورئيس واعضاء مجلس الوزراء والمدراء العامون في الوظائف الحكومية ورئيس واعضاء مجلس القضاء الاعلى واعضاء النيابات العامة والنواب وسواهم ) باعادة جزء من اموالهم المحولة الى الخارج، ولكن بنسبة 30 في المئة.
والاهم من كل ذلك هو مطالبة المصارف بتكوين احتياطي حر بقيمة 3 بالمئة. لقد اقدمت بعض المصارف على الزام المودعين على التوقيع على اوراق ومستندات يتم بموجبها اقتطاع نسبة 3 بالمئة من ودائعها، على ان تحجز تلك الاموال في المصرف لتأمين الاحتياط اللازم المفروض بالتعميم رقم 154. وتتضمن الاوراق والمستندات المطلوب من المودع توقيعها ، عدم أحقيته باجراء حوالات، وتؤكد تنازله عن حقه في مراجعة القضاء او الاعلام او اي مرجع آخر يمس بهيبة المصرف وسمعته. اما الذين يرفضون التوقيع فقد جرى تهديدهم باغلاق حساباتهم المصرفية.
ان تلك الممارسات تشكل " سطوا " مقنعا على اموال المودعين، لان المصارف ملزمة بتأمين 3 % كاحتياطي حر من اموالها وليس من اموال المودعين.
اما في حال تهديد المصرف للعميل باغلاق حسابه او بتجميده بصورة فعلية، فعلى المودع مراجعة لجنة الرقابة على المصارف. وفي حال عدم تجاوبها، يجب مراجعة قاضي الامور المستعجلة للحؤول دون اغلاق حسابه، خصوصا وان قانون النقد والتسليف يمنع المصرف من اقفال حساب العميل الا بموجب قانوني.
هـ ـ ترهيب المودعين بملاحقتهم بجرائم تبييض الاموال
بطبيعة الحال، المصرف المركزي ليس سلطة قضائية قادرة على الزام المودعين بارجاع جزء من اموالهم المحولة الى الخارج الى صناديق المصارف اللبنانية. فقد تضمن التعميم رقم 154 سلة من الاغراءات ، تمثلت في ان يقدم المصرف للعميل ضمانة " باستعادة وديعته مهما كانت الظروف عند حلول الاجل المتفق عليه ". وذلك من خلال تقديم المصرف للعميل " افادة خطية صريحة تبيّن ذلك ". وبقصد ان تتمتع الافادة الخطية بالمصداقية العالية طلب من " مفوضي المراقبة ان يلبوا كل طلب معلومات من المركزي تتعلق بصحة تطبيق احكام هذه المادة ". كما اتاح المصرف لهذه الفئة من المودعين استيفاء فوائد عالية في البند الثالث من المادة الثانية.
ولكن لا بد من القول ان مصرف لبنان يمكنه ان يعهد الى القضاء مهمة استرداد الاموال، الذي يمكنه ان يطلب من لجنة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان تزويده باسماء المودعين الذين حولوا اموالهم الى الخارج، تمهيدا لملاحقتهم بجريمة تبييض الاموال. ولدى لبنان منظومة قانونية قادرة على مكافحة تبييض الاموال؛ حيث يمكن في هذه الحال اعتبار" التحويل" الى الخارج بمثابة "تهريب" اموال يندرج في اطار جرائم تبييض الاموال، فتحت ستار مكافحة تبييض الاموال واعتبار " التحويل " الى الخارج " تهريبا " للاموال، يمكن تهديد العميل بالتجريم. وهذا ما يشكل وسيلة غير مشروعة للضغط على العملاء، خصوصا وان التحويل عرف مصرفي عمره في لبنان من عمر المصارف.
و ـ التحويل المصرفي الى الخارج عرف مكرس منذ نشأة المصارف في لبنان [5]
من المؤسف حقا ان يعمد حاكم مصرف لبنان الى اعتبار التحويل مخالفة قانونية قد تؤدي بالمودعين الى اعتبارهم مرتكبي جرائم تبييض الاموال، كما اشرنا اليه اعلاه. ان قبول المصرف بفتح حساب مصرفي لصالح عميله ينطوي ضمنا على التزامه بتادية خدمة صندوق العميل Service de caisse .
هذه الخدمات المصرفية تشمل من بينها التحويل المصرفي[6] . ويفهم من احكام القانون رقم 81 تاريخ 2018/10/10 المتعلق بالمعاملات الالكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي، الذي نظّم عملية التحويل الالكتروني للاموال النقدية تحت احكام الفصل الثالث المتعلق بالخدمات المصرفية والمالية والالكترونية، ان القانون اللبناني ادخل عملية تحويل الاموال ضمن اطار الخدمات المصرفية التي تؤمنها المصارف لعملائها. ولا يصح للمصرف التذرع بالظروف الاستثنائية لرفض التحويل، لان تلك الظروف لا تشكل القوة القاهرة بمفهوم المادة 342 موجبات وعقود. وبغياب اي نص تشريعي يمنع تحويل الاموال الى الخارج، يبقى التحويل متاحا ما لم ينص عقد فتح الحساب المصرفي على خلاف ذلك بصورة صريحة. وهذا ما لم نلحظه في الممارسة العملية، بل على العكس من ذلك ، كثيرا ما كانت تروج المصارف التحويل الى الخارج كخدمة من خدمات العميل ، على منصاتها الالكترونية، فلا يعود هناك اي مانع يحول دون التحويل.
مهما يكن الامر ، فسواء كان استرداد الاموال المحولة يخدم الوضع الاقتصادي المتردي ام لا ؛ يبقى القانون هو الشرط اللازم الذي بدونه لا يمكن ان ينهض الاقتصاد، فالمساران الاقتصادي والتشريعي متكاملان، ولا يصح ان نهدر احدهما في سبيل الاخر لان تهاتر احدهما سيعدم الاخر، فنحن لا نريد ـ تحت ذريعة النهوض والاقتصادي ـ " الاطاحة " بما تبقى من دولة القانون ... والله اعلم ما اذا كان التعميم رقم 154 سيرتد خيرا على الاقتصاد اللبناني أم لا.
[1] راجع، باسكال فؤاد ضاهر، جريدة النهار، عدد 2020/9/14.
[2] راجع لطفا، مجلس شورى الدولة، قرار رقم 475، 29 آذار 1995، ( فرنسبنك ش.م.ل / مصرف لبنان )، غير منشور.
[3] راجع لطفا، قرار مجلس الشورى، رقم 475، السالف ذكره
[4] راجع مقالة باسكال فؤاد ضاهر في جريدة النهار، السابق ذكرها
[5] راجع في سبيل ذلك ، قرار محكمة الاستئناف في يروت، الغرفة الثالثة، تاريخ 11 شباط 2021، غير منشور.
[6] مثل ايضا، سحب وايداع الاموال، وتحصيل الشيكات؛ أنظر في ذلك،
Jean – Louis Rives – Lange et Monique Contamine – Raynaud, Droit bancaire, 6 e édition, nº 280 ; lexique finance , lexique banque en ligne.
* دكتور في الحقوق، بروفسور لدى كليات الحقوق، محام بالاستئناف، مستشار قانوني في الامارات العربية المتحدة ـ دبي.