أناط قانون النقد والتسليف بحاكم مصرف لبنان صلاحية المحافظة على النقد لتأمين اساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم وتتضمن مهمة المصرف بشكل خاص ما يلي:
- المحافظة على سلامة النقد الوطني.
- المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
- المحافظة على سلامة اوضاع النظام المصرفي.
- تطوير السوق النقدية والمالية.
- يمارس المصرف لهذه الغاية الصلاحيات المعطاة له بموجب هذا القانون ( المادة 70 المعدلة بالقانون المنفذ بالمرسوم رقم 6102 تاريخ 73/10/5 ، الجريدة الرسمية ، عدد 81 ملحق ).
فكيف يتعامل القاضي مع هذه التعاميم اذا طرح تطبيقها في معرض دعوى عالقة امامه.
يجب التمييز بين حالتين:
الحالة الاولى: هي الحالة التي يكون فيها التعميم موضوع طعن امام مجلس شورى الدولة.
الحالة الثانية: هي الحالة التي لا يكون فيها التعميم موضوع طعن امام مجلس شورى الدولة.
I ـ الحالة التي يكون فيها التعميم موضوع طعن امام مجلس شورى الدولة:
أ ـ قابلية طعن التعاميم الصادرة عن حاكم مصرف لبنان للطعن:
لا بد بادىء ذي بدء من طرح السؤال عما اذا كانت تعاميم حاكم مصرف لبنان قابلة للطعن أم لا امام مجلس شورى الدولة؟
للاجابة على هذا السؤال، لا بد من تحديد طبيعة التعاميم التي يصدرها حاكم مصرف لبنان، وما هو مدى قابليتها للطعن؟ ان الاجابة هنا تفترض تحديد طبيعة المصرف المركزي.
لا يتصل المصرف المركزي بنظام المؤسسات العامة، بل هو يخضع لقانون انشائه، اي قانون النقد والتسليف كما للنصوص التنظيمية الصادرة تطبيقا له. من مراجعة هذا القانون يتبيّن ان مصرف لبنان هو "شخص معنوي من اشخاص القانون العام"، ما يعني انه ليس " مؤسسة عامة " أو " مصلحة مستقلة " ، خلافا للمؤسسات العامة التي وصفها المشترع على هذا النحو ووضع كل منها تحت وصاية احدى الوزارات.
وما يؤكد ذلك هو ان المشترع قد وحد عام 1959 نظام المؤسسات العامة بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 150/59 ، تاريخ 1959/6/12 ، وكانت تسمى حينذاك " مصالح مستقلة ". فلو شاء ادخال مصرف لبنان ضمن المؤسسات العامة، لما كان تاخر في ذلك لان انشاء المصرف المذكور حصل عام 1963، في وقت كان المرسوم الاشتراعي رقم 150/59 قد أرسى قواعد انشاء وتنظيم المؤسسات العامة.
أضف الى ذلك ان مقارنة سريعة بين احكام هذا المرسوم الاشتراعي والاحكام التي انشىء بموجبها المصرف المركزي، تكفي للتأكيد ليس فقط على استحالة ادخال مصرف لبنان ضمن اطار نظام المؤسسات العامة، بل على ان تنظيم وسير عمل مصرف لبنان لا يتوافقان مع قواعد نظام المؤسسات العامة. ونشير في هذا السياق الى بعض الفوارق الاساسية بين نظام مصرف لبنان ونظام المؤسسات العامة، التي تؤدي الى استبعاد توصيف مصرف لبنان كمؤسسة عامة.
فمصرف لبنان يتمتع باستقلالية شبه تامة ويخضع لرقابة بسيطة وليس لوصاية، وهو بموجب قانون انشائه يعتبر شخصا معنويا من اشخاص القانون العام وليس مؤسسة عامة. وهنا نشير الى انه يوجد في الممارسة العملية اشخاص معنويون من القانون العام لا يشكلون اطلاقا مؤسسات عامة، مثل " الغرف التأديبية " في فرنسا التي هي من الاشخاص المعنويون في القانون العام، بدون ان تشكل مؤسسات عامة.
اذا عدنا الى العناصر المكونة لمصرف لبنان، نجد انه يشكل سلطة عامة مستقلة تتمتع بالشخصية المعنوية Autorité publique indépendante ، الا ان ذلك لا ينفي رقابة القضاء على اعماله، بل على العكس فقد قرر الاجتهاد ان الاعمال التي تصدر عن هذه السلطات تبقى خاضعة لرقابة القضاء، فتكون تاليا التعاميم الصادرة عن حاكم مصرف لبنان ، خاضعة لرقابة القضاء، وتحديدا هي قابلة للطعن امام مجدلس شورى الدولة ضمن المهلة القانونية التي تبدأ من تاريخ نشرها، لا سيما وان طبيعة هذه التعاميم هي تنظيمية .
ب ـ مدى تأثير الطعن على تعاميم حاكم مصرف لبنان:
ما هو تأثير الطعن على فاعلية التعاميم الصادرة عن حاكم مصرف لبنان ؟
للاجابة على هذا السؤال يجب عرض الفرضية التي يطرح فيها تطبيق احد التعاميم الصادرة عن حاكم مصرف لبنان امام القضاء العدلي، في الوقت الذي يكون فيه التعميم المذكور قيد النظر بدعوى ابطال لمخالفته القانون امام مجلس شورى الدولة. في هذه الحالة، يجب على القضاء العدلي ان يتوقف عن النظر بالدعوى المبنية على التعميم المذكور، لحين البت بدعوى ابطاله امام مجلس شورى الدولة، عملا بالمادة 504 أ.م.م. اي بعبارة أخرى على القضاء العدلي ان يستأخر الفصل بالدعوى المسندة الى التعميم والعالقة امامه لحين البت بدعوى بطلانه العالقة امام مجلس شورى الدولة. فاذا تم ابطال التعميم لمخالفته القانون، رتّب القضاء العدلي النتيجة اللازمة على قرار الابطال. واذا ردت دعوى الابطال يكون القضاء العدلي ملزما بالنتيجة التي خلص اليها مجلس شورى الدولة ، فيعطي للتعميم آثاره القانونية كاملة.
II ـ الحالة التي لا يكون فيها التعميم موضوع طعن امام مجلس شورى الدولة:
هنا يجب التمييز بين حالتين:
الحالة الاولى : هي الحالة التي تكون فيها التعاميم متوافقة مع القواعد القانونية الاعلى منها مرتبة.
الحالة الثانية: هي الحالة التي تكون فيها التعاميم متعارضة مع القواعد القانونية الاعلى منها مرتبة.
في الحالة الاولى، تكون التعاميم ملزمة للقاضي العدلي الذي عليه التقيّد بها، لانها متوافقة مع القواعد القانونية الاعلى منها مرتبة.
ولكن الامر يصبح خلاف ذلك في الحالة الثانية، متى تعارضت تلك التعاميم مع القواعد القانونية الالزامية ، بحيث انه وسندا لمبدأ تسلسل القواعد القانونية المنصوص عنه في المادة 2 أ.م.م.، يجب على المحكمة ان تطبق القاعدة الاعلى مرتبة، وتهمل الادنى مرتبة، في كل مرة تجد تعارضا بين قاعدتين تحكمان موضوع النزاع. ولا يصح القول ان تلك التعاميم تبقى ملزمة للقضاء العدلي وسارية المفعول طالما لم يصدر اي قرار بابطالها من مجلس شورى الدولة، وان القضاء العدلي ليس مختصا في هذا الصدد؛ بل الصحيح انه يتوجب على القاضي العدلي في كل مرة تطرح امامه قاعدتان قانونيتان متعارضتان منطبقتان على موضوع النزاع، ان يطبق القاعدة الاعلى مرتبة وان يهمل تلك الادنى مرتبة لان المفاضلة بين القاعدتين يدخل في صلب اختصاصه حسبما نصت عنه المادة 2 أ.م.م. ودونما حاجة لانتظار صدور قرار عن مجلس شورى الدولة بخصوص ابطال او عدم ابطال التعميم المنازع فيه. هذا ما لم تكن هناك مراجعة عالقة امام مجلس شورى الدولة. ففي هذه الحالة، على القاضي العدلي ان يتوقف عن تطبيق التعميم او عدم تطبيقه بانتظار ما سيصدر عن مجلس شورى الدولة عملا بقاعدة الاستئخار بالبت، وتجنبا لتضارب الاحكام القضائية فيما بينها.
ان اعمال مبدأ تسلسل القواعد القانونية من قبل القضاء العدلي، يكون متحققا عندما لا يكون التعميم موضوع طعن مستقل امام مجلس شورى الدولة؛ ففي هذه الحالة يكون القضاء العدلي ملزما ـ سندا للمادة 2 أ.م.م. ـ بتطبيقه ولا يجب ان يكلف الفرقاء بمراجعة مجلس شورى الدولة للاستحصال على قرار بهذا الخصوص.
ان سلطة القاضي العدلي هنا تنحصر في اعمال مبدأ تسلسل القواعد القانونية، واهمال تطبيق التعميم المخالف للقانون، وتأكيد تطبيق التعميم المطابق له ، بدون ان يحق للقاضي ابطال التعميم المخالف للقانون، اذ يعود له فقط تطبيق التعميم المطابق للقانون واهمال التعميم المخالف له بدون الدخول حتى في مدى ملاءمة تطبيق التعميم المخالف للقانون، في ظل الظروف الاستثنائية، التي لا تبرر اصلا مخالفة القوانين او تعديلها بتعماميم ادنى منها مرتبة ، اذ يبقى التعديل المنشود جائزا بالآلية القانونية الصحيحة وعبر اصدار قوانين تعديلية موازية للقانون المطلوب تعديله، احتراما لمبدأ موازاة الصيغ، parallélisme des formes اذ لا يصح تعديل القوانين بموجب تعاميم صادرة عن حاكم مصرف لبنان او عن سواه.
ان وضع الامور في نصابها الصحيح يحل المشاكل المطروحة اذ يحكم المسألة ثلاثة توجهات:
1 – التقيد بالمادة 2 أ.م.م. التي تعطي القاضي العدلي صلاحية المفاضلة بين القواعد القانونية، ورفض تطبيق التعميم المخالف للقانون، لان التعميم أدنى مرتبة منه.
2 – استئخار البت بالدعوى عندما يكون التعميم المطروح قيد مراجعة ابطال امام مجلس شورى الدولة.
3 – اكتفاء القضاء العدلي برفض تطبيق التعاميم المخالفة للقانون دون ان يحق له ابطالها.
ويجب التشديد ان الظروف الاستثنائية لا تبرر اصدار تعاميم مخالفة للقانون، لان في ذلك ليس فقط مخالفة قانونية، بل مخالفة دستورية، اذ ان تعديل القانون بتعميم تذرعا بالظروف الاستثنائية يشكل تدخلا للسلطة الاجرائية في اعمال السلطة التشريعية وخرقا لمبدأ فصل السلطات.
دعوا مونتسكيو Montesquieu يرتاح حيث هو ولا تهدموا " هرم كلسن " Kelsen انه أحد أسس نظامنا القانوني العريق.