بتاريخ 26\2\1989، نشرت جريدة الديار في الصفحة الثامنة من العدد الصادر في ذاك اليوم خبر معنون ب" جمعية المصارف كلّفت الزاخم حلّ اشكالات قضية نعيم". ومما ورد في الخبر أنّ المدّعي العام التمييزي القاضي جوزف فريحة لم يتسلم حتى تاريخ امس اي تكليف رسمي من الحكومة بشأن قضية حاكم مصرف لبنان الدكتور ادمون نعيم، وان الحكومة هي بصدد جمع المعلومات واتمام الملف، ولم تقدم حتى ذاك اليوم اي تكليف"
وفي مكان آخر من المقالة المذكورة ورد أنه أجرى الوزير الدكتور عبد الله الراسي قبل ظهر امس اتصالاً هاتفياً بحاكم مصرف لبنان الدكتور ادمون نعيم، أكد له خلاله بأنه يرفض الاتهامات الموجهة له لما عرف عنه من نزاهة وحرص على المصلحة العامة."
وفي معلومات ذكرت مصادر مطلعة ان قرار احالة حاكم مصرف لبنان الدكتور ادمون نعيم الى القضاء جاء بعد سلسلة من التجاوزات اولها رفضه التقيّد بقرارات حكومة العماد ميشال عون خصوصاً بالنسبة لفتح اعتماد لالبسة الجيش، وآخرها رفضه الموافقة على طلب الحكومة تأجيل انتخابات مجلس ادارة انترا اصراره على انتخاب نائبه الاول الدكتور حسين كنعان على الرغم من عدم قانونية هذا الانتخاب باعتبار انه يجب على كنعان الاستقالة قبل انتخابه عضواً في مجلس ادارة "انترا"، اضافة الى التجاوزات التي ارتكبها رئيس مجلس ادارة "انترا" السابق السيد روجيه تمرز دون أي تدخل من الحاكم او من لجنة الرقابة على المصارف. "
وقد طرح آنذاك سؤال، من هي السلطة التي يحق لها احالة حاكم مصرف لبنان الى القضاء وبالتالي عما اذا كان للحاكم وفي حال احالته الى التحقيق حق الاستمرار في قيادة المصرف المركزي.
هذا الخبر يا سادة يعود للعام 1989. واذا ما اطلعنا على أي صحيفة منذ أيام قليلة ولّت وحتى يومنا هذا، نلاحظ تشابه الأحداث، وتشابه المشكلات المطروحة، لا وبل المعضلة القانونية، مع اختلاف الزمان واختلاف معظم الشخصيات المعنية.
السؤال الذي طرح في العام 1989 يعود طرحه اليوم، ما هي حصانة حاكم مصرف لبنان؟ بمعنى آخر، اذا ثبت مسؤوليته الجزائية، من هي الجهة التي تحيله الى القضاء؟ ما هي حصانات وضمانات حاكم مصرف لبنان؟
تجدر الاشارة بداية الى أنّ هذه الدراسة لا تتبنى أي رأي حول مسؤولية حاكم مصرف لبنان أو عدم مسؤوليته عن أية مخالفات مالية مرتكبة خلال ولايته، بل هي محصورة بمحاولة الاجابة عن السؤال المطروح: كيف يحاكم حاكم مصرف لبنان؟
وللاجابة على هذا السؤال، سوف نستعرض المواد القانونية من العام الى الخاص، ومن ثم سوف ننصرف الى تحليل هذه المواد توصلا لابداء رأينا القانوني في المسألة المعروضة أمامنا.
وعليه، وبالعودة الى قانون أصول المحاكمات الجزائية، يتبين أنه نصت المادة 18 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على ما حرفيته:
"يجري تعيين النائب العام المالي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل.
يتمتع النائب العام المالي, في حدود المهام المحددة له في هذا القانون, بالصلاحيات العائدة للنائب العام التمييزي."
في حين أن المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية قد نصت على أنّه:
"يتولى النائب العام المالي مهام الملاحقة في الجرائم الآتية:
أ - الجرائم الناشئة عن مخالفة احكام قوانين الضرائب والرسوم في مختلف المرافق والمؤسسات العامة والبلديات بما فيها الضرائب الاميرية والبلدية والرسوم الجمركية ورسوم المخابرات السلكية واللاسلكية.
ب - الجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة ولا سيما المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف.
ج - الجرائم الناشئة عن مخالفة قوانين الشركات المساهمة وجرائم الشركات المتعددة الجنسية.
د - الجرائم التي تنال من مكانة الدولة المالية أو السندات المصرفية اللبنانية أو الاجنبية المتداولة شرعا او عرفا في لبنان وجرائم تقليد وتزييف وترويج العملة والاسناد العامة والطوابع واوراق الدمغة.
ه ـ جرائم اختلاس الاموال العمومية.
و - جرائم الافلاس ."
وهكذا يتبين أنّ المادة 19 أولت النيابة العامة التمييزية مهام الملاحقة في الجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة لا سيما المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف. فهل هذا يعني أنّ النيابة العامة المالية لها حق تحريك الحق العام في الجرائم المرتكبة من قبل حاكم مصرف لبنان؟
بالحقيقة فانّ حق تحريك النيابة العامة المالية للجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة ولا سيما المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف، ليس حقا مطلقا، اذ جاءت المادة عشرين من قانون أصول المحاكمات الجزائية لتضع حدودا عليه، ما يعني أنّ لا يحق للنائب العام المالي أن يحرك عفوا الجرائم الناشئة عن أو المتعلقة بقانون النقد والتسليف، اذ جاءت الفقرة الأولى من المادة عشرين لتنص صراحة على أنه لا تجري الملاحقة في الجرائم المصرفية الناجمة عن مخالفة قانون النقد والتسليف الا بناء على طلب خطي من حاكم مصرف لبنان.
ولكن، ماذا لو أن الجرائم المصرفية الناجمة عن مخالفة قانون النقد والتسليف مرتكبة من حاكم مصرف لبنان نفسه؟ من هي المرجعية التي يحق لها الطلب من النيابة العامة المالية أو التمييزية أو من قبل أي مرجع قضائي ملاحقة حاكم مصرف لبنان؟
للاجابة على هذا السؤال، سنعرض بعض أحكام المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف لا سيما المادة 18 منه التي نصت على تعيين الحاكم ونائبيه بحيث نصت الفقرة الأولى أن تعيين الحاكم يكون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية، وفي الفقرة الأخيرة جاء النص على أن الحاكم يقسم بين يدي رئيس الجمهورية على أن يقوم بوظائفه باخلاص ودقة محترما القانون والشرف.
ولعل المادة 19 من قانون النقد والتسليف وهي المادة التي أخذت أكثر حيز من الجدل في الفترة الأخيرة والتي يستند اليها البعض للحديث عن حصانات وضمانات حاكم مصرف لبنان. فقد جاءت هذه المادة لتمنع بصيغة الجزم من اقالة الحاكم من وظيفته باستثناء حالات ضيقة واستثنائية وهي:
- العجز الصحي المثبت بحسب الأصول
- الاخلال بواجبات الوظيفة في ما عناه الفصل الأول من الباب الثالث من قانون العقوبات
- الخطأ الفادح في تسيير الأعمال.
- مخالفة أحكام المادة 20 من قانون النقد والتسليف.
وقد نصت المادة 19 على ما حرفيته:
"فيما عدا حالة الاستقالة الاختيارية، لا يمكن اقالة الحاكم من وظيفته الا لعجز صحي مثبت بحسب الاصول أو لاخلال بواجبات وظيفته في ما عناه الفصل الاول من الباب الثالث من قانون العقوبات، أو لمخالفة أحكام المادة 20، أو لخطا فادح في تسيير الاعمال.
لا يمكن اقالة نائبي الحاكم من وظيفتهم الا لذات الاسباب المعددة في الفقرة السابقة، بناء على اقتراح الحاكم أو بعد استطلاع رأيه. "
وأيضا يطرح السؤال نفسه، من هي الجهة المختصة لاقالة الحاكم؟ الرأي الراجح يقول بحسب مبدأ الموازاة في الأصول والصيغ، أن الجهة التي عينته هي الجهة التي تقيله، ما يعني أنه يعين بمرسوم ويقال بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء.
ولا يقال الا في حال توافر أي حالة من الحالات المذكورة أعلاه.
- حالات اقالة حاكم مصرف لبنان:
الحالة الأولى: العجز الصحي المثبت بحسب الأصول، وهنا من البديهي والطبيعي أن يكون العجز هو الذي يمنعه من ممارسة وظيفته. وأن يكون هذا العجز دائم، أو على الأقل عجز يمتد لفترة طويلة يصبح معه الحاكم بحكم الغائب عن القيام بوظيفته. أما العجز المرضي العادي المؤقت فهو ليس سبب من أسباب الاقالة.
الحالة الثانية: الاخلال بواجبات الوظيفة في ما عناه الفصل الأول من الباب الثالث من قانون العقوبات
الحالة الثالثة: مخالفة المادة 20 من قانون النقد والتسليف التي توجب:
- التفرغ كليا للمصرف المركزي.
- عدم الجمع بين وظائفهم وأية عضوية نيابية أو وظيفة عامة أو أي نشاط في أية مؤسسة مهما كان نوعها.
- عدم الاحتفاظ أو أخذ أية منفعة في مؤسسة خاصة.
الحالة الرابعة: الخطأ الفادح في تسيير الأعمال.
يبقى أن نشير الى أن المادة 70 من قانون النقد والتسليف قد نصت على موجبات المصرف العامة، والتي هي بشكل وآخر من مهام حاكم مصرف لبنان والتي في حال مخالفتها تندرج ضمن الحالات الأربعة المذكورة آنفا، فقد نصت المادة المذكورة على أن مهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم وتتضمن مهمة المصرف بشكل خاص ما يلي:
- المحافظة على سلامة النقد اللبناني.
- المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
- المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي.
- تطوير السوق النقدية والمالية.
- يمارس المصرف لهذه الغاية الصلاحيات المعطاة له بموجب هذا القانون
طبعا، فان الجهة المقيلة لها حق استنساب في تقدير توافر احدى هذه الشروط من عدمها. وفي حال سوء التقدير، يكون لحاكم مصرف لبنان أن يقاضي الدولة اللبنانية على الخطأ الفادح وأن يطالبها بالتعويض. ولكن لم ينص القانون على وسيلة طعن بقرار الاقالة. ولكن طالما أن الاقالة ستصدر بمرسوم، وأن المرسوم هو عمل اداري، ففي حال توافر الشروط العامة للعمل الاداري النافذ والضار، برأينا فانه يحق لحاكم مصرف لبنان أن يطعن بهذا المرسوم أمام قضاء الابطال في مجلس شورى الدولة.
اضافة الى ذلك، فقد نصت المادة 41 من قانون النقد والتسليف على أنه تنشأ في وزارة المالية "مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي" وأنه يدير هذه المصلحة موظف برتبة مدير عام يحمل لقب: "مفوض الحكومة لدى المصرف المركزي". ويكلف المفوض بحسب المادة 42 من القانون المذكور أعلاه:
أ- السهر على تطبيق هذا القانون.
ب- مراقبة محاسبة المصرف، ويساعده في هذا الجزء من مهمته موظف من مصلحته ينتمي الى الفئة الثالثة على الاقل من ملاك وزارة المالية.
تشمل مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي، من جهة اخرى، على دائرة أبحاث للشؤون المتعلقة بالنقد والتسليف.
ولكن هل هذا يعني أنه في حال مخالفة تطبيق هذا القانون فللمفوض صلاحية احالة حاكم مصرف لبنان على القضاء؟
برأينا أنّ القانون لم ينص على هذه الصلاحية الخاصة، وطالما أن القانون لم ينص على هذه الصلاحية الخاصة فاننا نعتبر أنه لم يعط القانون مفوض الحكومة صلاحية استثنائية بهذا الحجم اعداد رأي استشاري واحالته الى المرجع المختص لذلك أي الى سلطته التي عينته التي بدورها تحيل هذا التقرير الى مجلس الوزراء.
وفي الختام، جاءت المادة 206 لتنص على أنه:
"تلاحق مخالفات هذا القانون أمام المحاكم الجزائية وفقا للاصول العاجلة وتقام الدعوى من قبل النيابة العامة بناء لطلب المصرف المركزي.
تقرر المحكمة بنشر الحكم أو باعلانه أو بكلا الاجراءين وجزئيا أو كليا على نفقة المحكوم. "
وهذا يعني أنه في حال صدور أي مخالفة، يطلب حاكم مصرف لبنان بكتاب خطي من القضاء المختص أي النيابة العامة المالية ملاحقة المخالفين. ولكن السؤال الذي بقي دون اجابة هو من يطلب محاكمة حاكم مصرف لبنان طالما هو المرجع الأعلى في مصرف لبنان؟ أم هل أن عدم النص على حصانة خاصة أمر يجيز ملاحقته دون اذن؟
بعد أن استعرضنا المواد القانونية المذكورة أعلاه، نشير الى أن قانون النقد والتسليف، لم ينص بخلاف المواد المتعلقة بتعيين الحاكم أو باقالته وبطلب الملاحقة الجزائية على أي حصانة خاصة لحاكم مصرف لبنان. في حين أنه تم اعطاء حاكم مصرف لبنان حصانة بصفته رئيس هيئة التحقيق الخاصة، وذلك بموجب المادة 12 من قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب القانون المعجل رقم 44 تاريخ 24 تشرين الثاني 2015، ولكن طبعا فان هذه الحصانة تتعلق بالقانون المذكور دون أن يمتد الى قانون النقد والتسليف، وهذا النص نص خاص لا يجوز التوسع في تفسيره.
بناء لما ذكر أعلاه، فان النيابة العامة المالية لا يحق لها أن تحرك الجرائم الناشئة عن تطبيق قانون النقد والتسليف الا بناء على كتاب صادر عن حاكم مصرف لبنان. وهذه المادة لم تميز بين هوية مرتكب هذه الجرائم. ولكن من غير المنطقي القول أنه اذا ارتكب حاكم مصرف لبنان جرما ان يطلب هو بنفسه احالته الى المحاكمة.
يكفي أن نقول أنه لا صلاحية للنيابة العامة المالية للتحرك عفوا، حيث وضع القانون حدودا واضحا على هذه الجرائم. الامر الذي يدفعنا الى البحث عن سلطة أعلى. وقد ذهب الرأي الراجح الى اعتماد القياس، أن المرجع الذي يعين حاكم مصرف لبنان والذي يقيله هو مجلس الوزراء، هو نفسه الذي يحق له الطلب الى القضاء ملاحقته، لا سيما أنه اذا تمت اقالته بموجب مرسوم، تسقط عنه صفة حاكم مصرف لبنان وبالتالي ولو افترضنا وجود حصانة عليه، فانه بالاقالة تسقط عنه هذه الحصانة. وقد عرضنا في المقدمة أنه في العام 1989 كان التوجه الى أن تطلب الحكومة ملاحقة حاكم مصرف لبنان ادمون نعيم ولم يتم الاشارة الى أي مرجع قضائي آخر.
في الخلاصة، ان حاكم مصرف لبنان هو منصب رئيسي رمزي ويشكل عامود من اعمدة النظام اللبناني طالما أن القطاع المصرفي في لبنان هو قطاع حيوي أساسي في هذا الشرق. لا سيما أن النظام اللبناني وحده مع سويسرا يعتمدان مبدأ السرية المصرفية. ولهذا نرى أن القانون قد منح ضمانات عالية لحاكم مصرف لبنان بالنظر الى المهام الكبيرة الملقاة على كاهله.