* قراءة سريعة للاحكام القضائية الصادرة في النزاعات الاخيرة بين المصارف والمودعين، تحملنا على الجزم بان تلك الاحكام تعكس رغبة اكيدة لدى القضاة بمعالجة الوضع في ضوء النصوص القانونية المرعية الاجراء، فقد استندت تلك الاحكام الى عدة مواد قانونية ، نذكر منها المواد : 249 ، 293، 299، 691، 759، 754، 711، 301 من قانون الموجبات والعقود، والى المادتين 307 و431 من قانون التجارة، كما الى المادتين 122 و123 من قانون النقد والتسليف وسواها من المواد القانونية.
كما تضمنت تلك الاحكام التطرق الى مفاهيم ومؤسسات قانونية عديدة، فتناولت بصورة عرضية نظرية الظروف الطارئة والتحاويل داخل لبنان وخارجه وأحقية المودع في سحب شيكات من حسابه الشخصي، او اصدار شيكات مصرفية بالدولار الاميركي ، كما تطرقت الى التحويل داخل لبنان، وتحويل عملة المبلغ المطلوب تحويله الى الخارج الى الليرة اللبنانية وسحبه نقدا وبالكامل خارج البلاد الخ.
ولم يغب عن هذه الاحكام فكرة توصيف العقد الجاري بين المصارف والمودعين بعقد الوديعة، واخضاعه لشروطها. واثارت المحاكم موضوعا اقتصاديا هاما يتعلق بصلب حياتنا السياسية في لبنان وهو مبدأ المبادرة الحرة والاقتصاد الحر المكرّس في الدستور اللبناني. وتضمنت تلك الاحكام ان المصارف عللت تصرفاتها بانها مجرد تدابير مؤقتة استثنائية لاجل المصلحة العامة ولمنع الانهيار الاقتصادي العام والشامل ولمنع " هجرة " النقد الاجنبي من السوق المحلي حفاظا على مصلحة العملاء وتحصينا لحقوق المودعين، عازية تعاملها مع المودعين على هذا النحو الى الظروف الطارئة التي املت هذه القيود والتي تشكل حاجة اقتصادية ونقدية ذات اهمية وطنية. اثيرت القوة القاهرة من بعض الخصوم بصورة عرضية دون الذهاب الى حد المطالبة بتطبيقها بعد التثبت من شروط توافرها. حاولت المصارف تبرير منع التحاويل الى الخارج، بالمحافظة على معدل نسبة النقد الاجنبي في السوق المحلي.
عرفّت المحاكم ما يسمى " ضوابط رأس المال " Capital Control" بانها " مجموعة اجراءات تتخذها الحكومة او البنك المركزي او الهيئات التنظيمية المتعددة للحد من تدفق رأس المال الاجنبي داخل وخارج الاقتصادر المحلي ... مثل منع التحويلات الى الخارج او الحد من عمليات السحب النقدي وذلك لمنع خروج الاموال وحماية احتياطي العمولات الاجنبية ولجم التغيرات في سعر الصرف".
وتمت الاشارة بصورة واضحة الى ان عمليات التحويل هي من صلب العمليات العادية غير الاستثنائية التي تقوم بها المصارف، فالتحويل هو العملية التي بموجبها يقوم المصرف بتحويل مبلغ من المال من حساب زبونه الى حساب آخر يحدده هذا الاخيير وبناء لتعليماته.
تضمنت هذه الاحكام تأكيدا على حماية الملكية الفردية وحق الفرد في التصرف بأمواله. تم التساؤل عما اذا كانت " الازمة الحالية " تشكل ام لا القوة القاهرة ؟ اكدت الاحكام القضائية انه لا يوجد قانون يجيز للمصرف وضع القيود على حرية التصرف وتحريك الحسابات والتصرف بها وتحويلها، كقانون " Capital Control" على سبيل المثال لا الحصر. جرى الكلام على "الازمة الاقتصادية " التي يمر بها لبنان وما اذا كانت تشكل قوة قاهرة ام لا ؟
جرى توضيح ان الشيك الذي تعتبره المصارف وسيلة لحصول المودع على امواله، لا يؤول الا الى التسديد في القيود، ولا يمكّن المودع من الحصول على امواله نقدا، وانه لا يوجد قانون يجيز للمصرف وضع القيود على حرية تحريك الحسابات والتصرف بها مثل Capital Control.
وتمّ التساؤل اكثر من مرة عما اذا كانت الازمة الاقتصادية الراهنة هي بمثابة القوة القاهرة؟
لفتنا في كل هذه الاحكام القضائية (1) انها لا تتضمن اي اشارة الى عقود فتح الحسابات المصرفية، فالمسألة ليست محصورة في اطار القانون الوضعي دون سواه، بل هي مسألة عقدية بامتياز، لان اصل العلاقة بين المصرف والمودع يحكمها عقد فتح الحساب المصرفي والنصوص الوضعية وليس هذه الاخيرة فقط. ولفتنا ايضا شعور قضاتنا، لا سيما الشباب والشابات منهم، بحس العدالة ؛ وهذا أمر ممتاز يدعونا ان نفتخر بهم وان نطمئن الى مستقبل القضاء في لبنان، الذي سيكون حتما في أيدي امينة، بوجود قضاة من هذا العيارحفظهم الله وسدد خطاهم، في سبيل احقاق الحق.
لا يمكننا في ظل ما يدور حاليا من علاقة متوترة بين المصرف ومودعيه، فصل هذه العلاقة عن الواقع والظروف المحيطة بنا، ان النظر الى المشكلة القائمة من منظار القانون الوضعي، لا يف بالحاجة المطلوبة ولا يعكس حقيقة الامر؛ وهذا ما يحملنا على التطرق الى دور الواقع في اختيار الحل القانوني لاي نزاع ( اولا )، ثم الاقرار بان القوانين الوضعية الحاضرة لا تكفي لتحقيق الغاية المطلوبة، وبالانتظار هل ان نظرية الظروف الطارئة Théorie de l’imprévision تفي بالغرض المطلوب ولو مرحليا ( ثانيا ) قبل الانتقال الى سن قوانين استثنائية بموجب مراسيم اشتراعية تحاكي الواقع الراهن وتؤمن حلولا اكثر انطباقا على الواقعية ( ثالثا ).
اولا: دور الواقع في تطبيق القاعدة القانونية:
لا يمكن عزل القانون عن واقعه، يجب ان يكون المناخ الاجتماعي مؤاتيا لتطبيق القانون، فالواقع لا يدخل فقط في تكوين القاعدة القانونية، بل، ايضا هو الذي يؤمن التطبيق الحقيقي للقانون. والامثلة على ذلك كثيرة ، ففي نهاية الثمانينات وبداية التسعينات تعرضت العملة الوطنية لانهيار كبير قلب المعادلة الاقتصادية في العقود بصورة صادمة، فمن كان قد سبق له ان افترض من البنك بالعملة اللبنانية ( 30.000 ل.ل. او 40.000 ل.ل. او 50.000 ل.ل. ) لشراء شقة، أتى يعرض على البنك هذا المبلغ في الوقت الذي لم يعد فيه يساوي شيئا مقابل تبرئة ذمته من ثمن الشقة ! وانهار تجار الابنية ماليا وافلسوا لانهم قبضوا مستحقاتهم من مشتري الشقق بالعملة اللبنانية، ما ادى الى خسارتهم رأسمالهم.
لم يتدخل المشترع حينذاك وترك الامور على حالها، وقيل لنا انه لا يمكن ان نضع قانونا ينظم انهيار النقد الوطني لانه سيسيء الى العملة الوطنية. وان من أودع حينذاك عملة بالليرة اللبنانية في المصارف، بقيت العملة اللبنانية على حالها وفقدت قيمتها الشرائية بصورة شبه كاملة.
دبّت الفوضى المالية في السوق النقدي ولم تتدخل الدولة اللبنانية لضبط الاسواق. والامثلة تطول في لبنان على الوقائع التي افرغت القواعد القانونية من مضامينها، فالاحكام القضائية الصادرة ضد المهجرين، بقيت ردحا طويلا من الزمن بدون تنفيذ، لانه تم أخذ واقع المهجرين الذين يشغلون منازل عن طريق الاحتلال، بعين الاعتبار، اذ انه كان قد سبق ان تم تهجيرهم من قراهم وبلداتهم فاحتلوا منازل اخرى في مناطق اخرى لايواء عائلاتهم.
وكذلك الحال مع القوانين التي تحكم استثمار المؤسسات المصنفة، اذ ان غالبية المؤسسات المصنفة مخالفة للقانون او على الاقل، غير مستوفية لكافة الشروط القانونية المطلوبة، وبالرغم من ذلك، لا يتم اقفالها، مخافة الاثر الكبير الذي قد يترتب على ذلك.
ان كل هذه الامثلة تثبت ان الواقع هو المناخ المناسب لتطبيق القانون، فلا يمكن فصل القانون عن واقعه، سواء في مرحلة اعداد القاعدة القانونية ام في مرحلة تنفيذها. وبمعزل عن الجهة المسؤولة التي اوصلتنا الى هذه الحالة، من المؤكد ان المودع ( المواطن اللبناني او الاجنبي ) غير مسؤول عنها. ولكن لا يمكن في اطار القوانين الوضعية الحاضرة ان نجد حلولا حقيقية، لانها قاصرة عن تحقيقها. ومن المؤكد ان المصارف ليست على حق في ما تدعيه لرفض التحويلات الخارجية او لمنع السحوبات النقدية الداخلية. وقد يكون الشيك المصرفي او الشخصي حلا في بعض الاحيان ولكنه ليس كذلك عندما يكون المطلوب تحويل اموال الى الخارج، فهذا الحل لن ينفع المودع لان الشيكات حتى المصرفية منها ، محدود نطاقها في الاقليم اللبناني ولا يمكن صرفها في الخارج، كما ان تحويل الحساب من العملة الاجنبية الى العملة اللبنانية سيلحق بالمودع خسارة فادحة.
ان رفض السحوبات المطلوبة هو خرق واضح للقانون ولعقد فتح الحساب في آن واحد. وان الادعاء بان التحويل ليس حقا من حقوق المودع ليس صحيحا، فهو وان لم يكن مكرسا بنص تشريعي، فان الاعراف المصرفية اجازته منذ اكثر من سبعين عاما.
نحن الآن ندور في حلقة مفرغة، ولا يمكن ايجاد حلول عملية مقبولة اذا لم نأخذ بالاعتبار الواقع الراهن والنتائج العملية لاي تصرف نقدم عليه. ففي حال اعملنا بنود عقود فتح الحسابات المصرفية وطبقنا القانون الوضعي، ماذا سيحل بالوضع المصرفي ؟ سيتم افراغ المصارف من العملات الاجنبية بصورة كاملة وسيقع البلد في ازمة ليس فقط مصرفية، بل اقتصادية واجتماعية شاملة ومدمرة، بل قاتلة ! لان الواقع ليس مؤاتيا لتطبيق القانون الوضعي.
ان شروط القوة القاهرة ليست متوافرة ، لان موجب المصرف لم يصبح مستحيلا ، بل اصبح اكثر كلفة. ثم انه لا يمكننا اعتماد القوة القاهرة كمبدأ اجتهادي عام، لان لكل مودع ظروف مختلفة عن ظروف الآخر.
يوجد الآن رقابة على الحسابات المصرفية بصورة واقعية Capital control de facto ولا يوجد Capital control قانوني ومنظم، فهل يجب ان نقونن هذا النظام عبر وضع تشريع جديد له يدخله في نظامنا القانوني ؟ يعارض البعض بشدة هذا الرأي مستندا الى مخالفة الدستور الحامي الاول للملكية الفردية، فهل يجب الذهاب الى هذا الحد، فننتقد النصوص ونزرع الفوضى في السياسة النقدية ؟
لسنا بحاجة الى الذهاب الى هذا الحد، فالاجتهاد الخلاق كفيل مرحليا بالحل ( ثانيا ) بانتظار قوانين استثنائية تصدر بموجب مراسيم اشتراعية تحاكي وضعنا الاستثنائي الراهن.
ثانيا: نظرية الظروف الطارئة (2) Théorie de l’imprévision :
منذ الحرب العالمية الاولى ، استقر الاجتهاد القضائي في ظل الظروف المتبدلة، على القول ان القوة القاهرة تتوافر شروطها عندما يصبح التنفيذ مستحيلا وليس اكثر كلفة من ذي قبل. كما استقر الاجتهاد على فكرة عدم جواز تعديل شروط العقد من قبل المحاكم.
اذا سلمنا جدلا بجواز تطبيق نظرية الظروف الطارئة في القانون المدني Théorie de l’imprévision ، فانه يقتضي الحد من مداها عبر اخضاعها للشروط التالية:
1 – يجب ان يتضمن العقد تقديمات مستقبلية.
2 – يجب ان تكون التعديلات الطارئة في قيمة التقديمات او الخدمات تتجاوز بكثير التوقعات التي يمكن ترقب حصولها واقعيا حين توقيع الاتفاقية. يجب ان يبقى العقد محترما، طالما ان اللاعدالة لم تصبح بعد غير محتملة. هناك شعور بانه من الاسهل السماح للقاضي بحل العقد من ان نسمح له بتعديله.
في ايامنا الحاضرة لم يعد يحاول البعض تبرير مراجعة العقد بسبب الظروف الطارئة انطلاقا من تحليل ارادة الفرقاء، بل انطلاقا من مبررات العدالة او الفائدة الاقتصادية او الاجتماعية. فاذا اردنا ان تستمر العلاقة بين المصرف وعميله بصورة فعالة، فلا يجب ان يؤدي تنفيذ العقد الى " تدمير" احد طرفيه. وليس مسموحا من جهة اخرى، ان يتحمل احد طرفي العقد المصرفي وحده وبصورة كاملة نتائج تغير الظروف الطارئة، ويجب على القاضي ان " يؤقلم " العقد ليبقى فعالا ولا يتحول الى اداة لتدمير احد طرفيه، خصوصا وان تدمير العميل يؤدي الى دمار المصرف، والعكس صحيح فتدمير القطاع المصرفي يدمر الاقتصاد، ثم المجتمع والوطن باكمله.
هناك تحليل آخر في ايامنا الحاضرة، مفاده انه على فرقاء العقد، موجب اعادة مناقشة العقد من جديد في ضوء الظروف الطارئة ويقتصر دور القاضي على مراقبة خرق هذا الموجب.
ولكن لا بد من البوح بان المحاكم العدلية، تجد حرجا كبيرا في تطبيق نظرية الظروف الطارئة، لانها ترى ان مبرراتها غير قائمة، فضرورة المحافظة على سير المرافق العامة ليست موجودة هنا، وانه يجب التمسك بقاعدة " العقد شريعة طرفيه " " Pacta sent servanda ." وان محكمة النقض الفرنسية لم تبدل اجتهادها منذ قراراها الصادر في 6 آذار 1876، وقد تبعتها محكمة النقض البلجيكية ، خلافا للاجتهادين الايطالي والالماني اللذين سارا بنظرية الظروف الطارئة بدون اي صعوبة تذكر، فليس ما يمنع محاكمنا ان تحذو حذوهما وتغلب الواقع على المبادىء ، لان العدالة في النهاية لا تتحقق الا بتأمين المصالح الاقتصادية للفرقاء. ان مبادىء احترام الالتزام Le respect de la parole donnée ، كما ان اخلاقية العقد المصرفي واستقرار العلاقة بين المصرف وعملائه لا تحول كلها دون تكريس نظرية الظروف الطارئة.
ان اعتبار القاضي مصدرا اساسيا للقاعدة الحقوقية لا يحول دون اعتماد نظرية الظروف الطارئة في العلاقة الحالية المتأزمة بين المصارف وعملائها ، والاجتهاد الخلاق La jurisprudence créative هو المطلوب اليوم اكثر من اي وقت مضى، لان القاضي ليس خادما للقاعدة القانونية serviteur de la règle de droit بل هو رقيبا عليها.
ولكن بين رغبة القاضي في احترام النصوص القانونية الوضعية ، وآلية التشريع البرلماني المعقدة والطويلة والتي لا تأتلف مع الوضع المالي والاقتصادي الراهن وتدهور علاقة المصارف بعملائها، وبين وجوب معالجة الازمة الراهنة، تبرز المراسيم الاشتراعية الى الواجهة وتطرح كحل لتمرير المرحلة الاستثنائية الراهنة، على ان يمنح المجلس النيابي الحكومة صلاحية التشريع في مجالات محددة ولمدة زمنية محددة لاننا لسنا في وضع عادي، بل نمر في ظروف استثنائية قاهرة تستلزم تشريعات استثنائية قادرة على مواكبة الظروف وليست قاصرة عنها، فهل يمكن اعتبار المراسيم الاشتراعية بمثابة قوانين ظرفية Lois de circonstance وتكون هي الحل ؟
ثالثا: التشريع الاستثنائي : المراسيم الاشتراعية
عند تطبيق القاعدة القانونية، يجب الاخذ بعين الاعتبار الظروف التي املت تطبيقها والا كان عمل القاضي عبثيا absurde ، فالقاضي يصدر حكمه للمتقاضين ولا يهدر حقوق المتقاضين في سبيل النص ! فمن اللازم معرفة الظروف النقدية، المالية والاقتصادية الراهنة قبل اصدار اي حكم قضائي. ولهذا فقد يكون القاضي محرجا في استبعاد القانون الوضعي او في تطويعه خدمة للعدالة بصورة قسرية قد تخرج النص عن اطاره الصحيح. وهنا تعود بنا الذاكرة الى اوائل التسعينات حيث ان بعض القضاة ارادوا من خلال فقرة في قانون تعليق المهل الصادر في العام 1991، تبرير بعض احكامهم غير القابلة بالاثر المبرىء للعملة الوطنية، انطلاقا من قيمتها الاسمية، وكأن بعض القضاة في حينه كان يبحث عن " مخرج " يؤمن العدالة بعيدا عن قساوة النصوص التشريعية ، التي يرى البعض ان قساوتها لا تبرر تجاوزها "Dura lex sed lex "
« La loi est dure , mais c’est la loi ».
يرى البعض ان " طابة " الحل هي في "مرمى" المشترع وليست في " مرمى " القاضي، فوحده المشترع قادر على تعديل هذه الحالات القائمة التي تحول علاقة المصرف بعملائه الى "حرب " دائمة لا تقتصر آثارها على الحاق الضرر بالمودعين، بل تسيء الى سمعة القطاع المصرفي باسره وتحوله الى " عدو " للمودع، ما ينذر بأوخم العواقب . ينبغي على المشترع العمل على تعديل هذه الحالة القائمة التي لا تروق لاحد. وينبغي عليه قبل كل شيء، تحديد ما يطلق على تسميته " القوى المضادة " التي ينبغي العمل على تعديلها ومحاربتها، والتي كانت سبب الحالة الراهنة التي لا تروق لاحد (3) . ان دراسة الحقائق الواقعية القائمة حاليا تضعنا امام عوامل متعددة: اقتصادية ، مالية، نقدية وربما وطنية؛ فالتشريع يرتبط الى حد بعيد بالوضع النقدي، المالي والاقتصادي؛ والحقيقة ان تغيّر الاوضاع المالية والنقدية في لبنان قد أدّى الى عدم التوافق بين الوضع الراهن والقوانين الوضعية الراهنة التي تحكم الاوضاع الحاضرة، ما يتعيّن معه تعديل القواعد القانونية لكي تدخل في اعتبارها الوضع المستجد؛ فالقانون يجب ان يخضع للعوامل الاقتصادية، المالية والنقدية ولكن لا يجب ان يغرب عن بالنا ان الاخذ بهذه العوامل لا يؤدي الى حصر دائرة القانون بالمصالح المادية ، لان الهدف من القانون ليس فقط مجرد اشباع الحاجات المادية للافراد ، فهو لا يخضع فقط للعوامل المالية والنقدية والاقتصادية، بل يوفق بين الافكار الاقتصادية وفكرة العدل، ثم ينبغي ان يراعى ان هناك انظمة قانونية متعددة لا تعتمد على الظروف المادية والاقتصادية، بل على العناصر الاخلاقية ايضا، وهذا ما يحملنا على القول بأن التدابير الاسثنائية المطلوبة بموجب نصوص استثننائية على شكل مراسيم اشتراعية، يجب ان تاخذ بعين الاعتبار حالة المودع الاجتماعية والعائلية ودوافعه ، لا ان تبني علاقة جامدة وغير متحركة Statique بينه وبين مصرفه (4) . وهذه الغاية لا تتحقق الا عبر مراسيم اشتراعية تحاكي الواقع الراهن وتؤمن الاستقرار المصرفي بالسرعة اللازمة بعيدا عن آلية التشريع العادية الطويلة والمعقدة والتي لا يمكن ان تؤمن اليوم الغاية المتوخاة. واننا في هذا السياق من الافكار ومع عدم تشجيعنا للتشريع البيروقراطي Bureaucratique نرى مناسبا اعتماده في بعض الظروف الاستثنائية كما هي الحال في وضعنا الراهن، لانه يبقى افضل بكثير من النصوص الجامدة البعيدة كليا عن الواقع . ولكننا نرى من الافضل استبعاد التعاميم، لا سيما تلك الصادرة عن مصرف لبنان واعتماد المراسيم الاشتراعية بتفويض من المجلس النيابي (5). واذا كان صحيحا ان القاضي لا يمكنه تعديل العقد، فهل ان هذا الامر يعود للمشترع؟ في نظامنا الحاضر الذي يكرس سلطة المشترع Le pouvoir du législateur وفي غياب اي مانع دستوري، يجب التأكيد على ان القانون يمكنه ان يتجاوز قاعدة " العقــد شــــريعة المتعاقدين "
" Pacta sunt servanda " فبحجة أولى، يمكن للمشترع ان يجيز للقاضي تعديل العقد. ولكن يصبح هذا الامر خطرا عندما تكون الاجازة أتت بصورة عامة فيذكر مثلا " كلما استدعى الانصاف ذلك " ، او " كلما استدعت الظروف ذلك " . في هذه الحالة ، نكون قد اعطينا للقاضي سلطة مطلقة pleins pouvoirs ، وهذا ما يؤدي حتما الى نتائج غير مرضية، فيجب على المشترع ان يحد من الصلاحيات الاستثنائية المعطاة للقاضي لتعديل العقود قضائيا.
لم يمنح واضعو قانون الموجبات والعقود للقاضي سوء سلطة اعطــــــاء مهل الســــــــماح
délais de grâce . في فرنسا وبعد انخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية اثر الحرب العالمية الاولى، اجاز قانون Failliot الصادر في 21 كانون الثاني 1918 للقاضي ان يفسخ بعض العقود المبرمة قبل العام 1914، تلك العقود التي بات تنفيذها يتطلب كلفة باهظة trop
honoreuse من قبل المدين. كذلك قانون 22 نيسان 1949 الذي اجاز للمحاكم فسخ العقود المبرمة قبل 2 ايلول 1939 والتي ينصب تنفيذها على تسليم بضائع او انجاز اشغال والتي نشأ عنها على عاتق المدين بفعل حالة الحرب او الظروف الاقتصادية الجديدة ، اعباء تتخطى ببعيد في اهميتها التوقعات التي كان يمكن تصورها منطقيا وقت توقيع هذه العقود. وكذلك قانون 11 اذار 1957 ( المادة 37 ) المتعلق بالملكية الادبية والفنية، أبرز فكرة " عدم التوقع " L’imprévision عند انتقال حقوق المؤلف، فاجاز مراجعة شروط العقد من قبل المؤلف عندما يكون قد تفرغ عن حقوقه لقاء مبلغ مقطوع يقل عن 7/12 من مجمل انتاج مؤلفه.
لم تتأخر السلطة التشريعية في تفويض السلطة الاجرائية صلاحية التشريع في مجالات محددة ولمدة محددة ( محددة في الزمان، وفي الطبيعة، وفي المسائل المطروحة ) عبر اصدار مراسيم اشتراعية Des décrets – lois . ففي الفترة الممتدة بين العامين 1914 و1939 ، وفي اكثر من مناسبة، عمدت المجالس التشريعية الى اعطاء الحكومات صلاحيات استثنائية واسعة مخصصة لمواجهة الازمات الاقتصادية والمالية المتعاقبة.
بعد الغاء المراسيم الاشتراعية في فرنسا بموجب دستور العام 1946، ابتدع الفرنسيون وسيلة مستحدثة لاعادة احياء نظام المراسيم الاشتراعية، فقانون 17 آب 1948 (6) ، الصادر في اعقاب ازمة مالية خانقة اعطى الحكومة صلاحية الغاء تعديل او استبدال احكام قانونية بأخرى، منصوص عنها في مواضيع تنظيمية معددة ( المادة 7). ولكن تقتضي الاشارة الى ان المراسيم الاشتراعية التي توضع عادة في مهلة قصيرة تكون ذات صياغة غير موفقة وتحدث فوضى في المنظومة التشريعية للبلاد ، فيجب ان تكون وقتية ولايفاء حاجات ظرفية، تمكننا من اجتياز الازمة المالية، النقدية والاقتصادية الراهنة وتؤمن وصولنا الى بر الامان (7) .
في الخلاصة يمكننا القول بانه اذا كان صحيحا بأن القاضي مقيد بالقاعدة القانونية فهو ليس خادما لها بل رقيبا عليها، ولكن النص ليس مطواعا بين ايدي القاضي الى آخر درجة، خصوصا عندما يختار القاضي الاجتهاد من داخل النص، كما هي الحال في القرار الصادر عن رئيس دائرة التنفيذ في بيروت، ( الرئيس فيصل مكي ) الذي انتهى الى ان الايفاء بالعملة الوطنية يكون صحيحا عندما يكون الدين مبلغا من النقود، وفقا للمادة 301 من قانون الموجبات والعقود التي أوجبت الايفاء من عملة البلاد عندما يكون الدين مبلغا من النقود، كما ان المادة 192 من قانون النقد والتسليف وانشاء المصرف المركزي، عاقبت من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية، فالمادة السابعة من ذات القانون اعطت للاوراق النقدية التي تساوي قيمتها الخمسماية ليرة وما فوق قوة ابرائية غير محدودة في اراضي الجمهورية اللبنانية.
ان هذا التفسير صحيح ولا تشوبه شائبة في ظل احكام المواد القانونية اعلاه المرعية الاجراء، ولكن يبقى التساؤل عما اذا كانت هذه المواد ما زالت متفقة مع الواقع النقدي ، المالي والاقتصادي الراهن، وعما اذا كانت كافية للايفاء بالغرض المطلوب في ظل فقدان العملة الوطنية جزءا لا بأس به عن قيمتها الشرائية. ثم ان قرار النائب العام التمييزي الصادر في 5 آذار 2020 والذي قضى بتجميد قرار النائب العام المالي المنتهي الى تجميد اصول المصارف ورؤساء مجالس ادارتها، الا يندرج في اطار الواقع بعيدا عن القانون ؟
(تحميل كامل الملف)
-------------------------------------------------------------------------------------
* مداخلتنا في الندوة التي انعقدت في جامعة بيروت العربية تت عنوان " المصارف والزبائن في ميزان العدالة"، نهار الجمعة الواقع فيه 21 شباط 2020.
** دكتور في الحقوق، بروفسور لدى كليات الحقوق، محام بالاستئناف، مستشار قانوني في الامارات العربية المتحدة – دبي.
(1) القاضي المنفرد المدني في بيروت الناظر في قضايا الامور المستعجلة كارلا شواح، قرار رقم 1/2020، 3 كانون الثاني 2020؛ قاضي الامور المستعجلة في المتن رانيا رحمه، القرار رقم 52/2020؛ قاضي الامور المستعجلة في المتن، راينا رحمة، القرار رقم 27/2020، 10 كانون الثاني 2020؛ قاضي الامور المستعجلة في النبطية، احمد مزهر، القرار رقم 225/2019، 19 كانون الاول 2019؛ رئيس دائرة التنفيذ في بيروت، فيصل مكي، 15 كانون الثاني 2020؛ محكمة الاستئناف في النبطية الناظرة في قضايا الامور المستعجلة، 9 كانون الثاني 2020 ( الذي قضى بوقف تنفيذ القرار الصادر في 7 كانون الثاني 2020 عن قاضي الامور المستعجلة في النبطية احمد مزهر )؛ تمييز، الغرفة الخامسة، الرئيس ميشال طرزي والمستشاران يوسف ياسين وجيهان عون، قرار رقم 130/2020، 17 شباط 2020، ( الذي قضى بعد النقض وفي المرحلة الاستئنافية، يوقف تنفيذ القرار المستأنف )، قرار النائب العام المالي الذي قضى بمنع التصرف باصول المصارف ورؤساء مجالس ادارتها ، تاريخ 5 آذار 2020 وقرار مدعي عام التمييز، بتجميد القرار الصادر في ذات التاريخ الخ.
(2) Radouant, Ducas fortuity, these, Paris, 1920; Bruzin. La notion d’imprévision, thèse, Bordeaux, 1922 ; Voirin, thèse, Nancy, 1922 ; Fyot, thèse, Dijon, 1921 ; Magnan de Bornier, thèse , Montpellier, 1924, Brunet, La guerre et les contrats, thèse Aix, 1917 ; Zacksas, Les transformations du contrat, thèse, Toulouse, 1939 ; Foula, Les Caractères de la notion d’imprévision, thèse , Paris, 1938 ; Maury , Essai sur la notion d’équivalence , thèse Toulouse, 1920 ; Campion, théorie de l’imprévision , Belgique judiciaire, 1926 ; Ripert, La règle morale, nº 81 et s ; La révision des contrats par le juge, Travaux de la semaine internationale du droit , Paris, 1937 ; Meijers, Le changement des circonstances sous lesquelles un contrat est conclu, doit – il influencer l’existence du contrat, Rapport à la société néerlandaise des juristes, 1918.
(3) انظر Roubier، النظرية العامة للقانون، البند 22، ص 303 و304. واشارته الى عبارات Ihering في هذا الخصوص؛ عبده جميل غصوب، المدخل الى العلوم القانونية، صادر، الطبعة الاولى 2018 ، ص 103، Marty et Raynaud، البند 54، ص 81 -83.
(4) أنظر بالنسبة الى العوامل الاقتصادية بصورة عامة:R. Mannier, Droit et économie politique, these , Paris, 1910, V.L. Veniamian, Essai sur les données économiques de l’obligation civile, thèse, Paris, 1930, Roubier,
المرجع السابق، البند 22، ص 204؛ Marty et Raynaud De la Gressage et Laborode – Lacoste, 1947 ، البند 15؛ و Roubie المرجع السابق، البند 22، ص 205 وما يليها De la Gressage et Laborode – Lacoste
(5) راجع لطفا كملحق مع هذه المداخلة، مشروع قانون معجل " تنظيم ووضع ضوابط استثنائية مؤقتة على بعض العمليات والخدمات المصرفية" ( مقترح من قبل وزارة المالية ).
(6) D. , 1948, 278.
(7) V. Ripert et Boulanger, Tome I, nº199 ; Vedel, Manuel élémentaire de Droit constitutionnel, 1949, Josserand, Les déformations récentes de la technique législative , D.H., 1939, chron. 9.