يشهد لبناننا اليوم أزمة إقتصادية لعلّها من أكبر الأزمات عبر التاريخ، ولقد طرحت العديد من التحدّيات طالت مختلف القطاعات وارتدت سلباً على الدخل القومي والفردي على حدّ سواء، وبتنا نرى تفلت في أسعار السلع والمنتجات في ظل عدم تمكن أجهزة الرقابة القيام بمهامها لعوامل عدة منها ارتدادات الأزمة الاقتصادية أو تفشي جائحة كوفيد-19 وما رافقها من تدابير وقائية وغيرها.
وفي خضم هذا المعترك الذي يتخبط فيه الإقتصاد اللبناني وفي غياب أي خطة إنقاذية لدعمه وإعادة تحريك عجلته، تعود مسألة الغاء الوكالات الحصرية لتبرز الى العلن من جديد وتحلّ موضع نقاش سياسي اقتصادي وقد تكون مطلباً شعبياً تحت ذريعة تعارض الوكالات الحصرية مع أهداف وتطلعات الاقتصاد الحر، ولاعتبارها الوكالات الحصرية مسؤولة الى حدٍّ كبير عن ارتفاع الاسعار وتفشي ظاهرة الاحتكار على حدّ قول البعض.
أما البعض الآخر، فلقد اعتبر الإبقاء على الوكالات الحصرية هو الضمانة الوحيدة لمراقبة جودة المنتجات التي ترتبط إرتباطاً وثيقاً بصحة وسلامة المستهلك كما ترتبط بمداخيل الدولة المتأتية من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة، بخاصة وأن المعابر غير الشرعية لا زالت تشرع أبوابها للتهريب وأعمال القرصنة من خلال إدخال البضائع المهربة او المقلدة او غير المطابقة للمواصفات اللبنانية الالزامية وذلك دون حسيب أو رقيب، ولا حتى رادع يردعها. وتجدر الإشارة في هذا السياق، ان محاولة الغاء الوكالات الحصرية ليست الاولى بل هي سابقة ترددت الى العلن منذ سنوات خلت ثم عادت وأحبطت لتعود مجدداً موضع نقاش وجدل كما أشرنا.
ففي ظل وضع الاقتصادي يشبه الوضع السياسي إذ تتجاذبه تعددية الاراء ووجهات النظر المختلفة، ولكن حدود هذا الاختلاف علمي ومنطقي ومن الواجب ان يبنى على رؤى واضحة متماشية مع ظروف واوضاع البلد ووضع ضوابط لعدم تفلت السوق.
ولا شك ان الغاء الوكالات الحصرية في ظل الوضع الاقتصادي اللبناني المنهار وما شابه ذلك من تفلّت للاوضاع الامنية وتفلّت المعابر غير الشرعية وغياب آلية لاجراء الرقابة المطلوبة وشلل الادارات العامة وإعاقة أعمال الموظفين فيها سوف يرتدّ سلباً لا محال على الاقتصاد الوطني وعلى مداخيل الدولة كما لا بد ان يؤثر على وضع الشريكات العريقة في هذا المجال وعلى وضع الأجراء فيها والاطاحة بمستقبلهم كما وتفشي البطالة وما يرافقها من أعراض بخاصة وأن 85 بالمئة من اللبنانيين أصبحوا تحت خط الفقر. والجدير ذكره في هذا السياق، غياب اي خطة انقاذية للمؤسسات الإقتصادية مما يهدد في انهيار كيان الإقتصاد الذي يشكّل أحد دعائم الدولة وركيزتها الأساسية.
كل ذلك يطرح الاشكالية حول ما اذا كان الغاء الوكالات الحصرية في الوقت الراهن وفق الاقتراح المقدم امام المجلس النيابي حلّ للازمة الراهنة ومنع الاحتكار ام ان وجود الوكالات الحصرية حماية وطنية مزدوجة للشركات الام من خلال الحفاظ على جودة منتجاتها وتسويقها وللمستهلك كي لا يقع في فخ الانزلاق في فوضى استيراد البضائع وضياع حقوقه من خلال عدم القدرة على تحديد المرجع الذي يلجأ اليه او يراجعه في حال تعرضه لأي غش او تضليل!!!
من اللافت ان اقتراح قانون المنافسة الذي يتضمن إلغاء الاحتكار والوكالات الحصرية يحمل في طياته مادتين، الاولى تتحدث عن تعديل نص المادة 2 من المرسوم الاشتراعي 34/1967 المعدلة بموجب المادة 2 من المرسوم رقم 9639 تاريخ 6/2/1975 لتصبح على الوجه التالي:
«كل عقد تمثيل تجاري ينشأ بعد العمل بهذا المرسوم الاشتراعي يجب أن يكون خطياً ويمكن أن يكون لمدة محددة أو غير محددة ولا يسري بند حصر التمثيل على الأشخاص الثالثين مطلقاً، ويُمنع احتكار أي سلعة تحت أي مسمى».
بالاضافة الى الغاء الفقرات 3 و4 و5 من المادة الرابعة من المرسوم الاشتراعي 34/1967 التي تتمحور حول إعطاء امتيازات للممثلين التجاريين (الوكلاء الحصريين)، كما تُلغى المادة 15 من المرسوم الاشتراعي رقم 73 الصادر في 9 أيلول 1983 (حيازة السلع والمواد والحاصلات والاتجار بها) المتعلقة بالاحتكار والمضاربة غير المشروعة، وتصبح كما يلي:
«كل عمل من الأعمال المبيّنة في المادة السابقة يعتبر باطلاً حكماً، بالنسبة للمتعاقدين أو المتكتلين سواء أكان هذا ظاهراً أو مستتراً، ولا يجوز لهم التذرع بهذا البطلان إزاء الغير للتنصل من مسؤولياتهم».
بحيث تمّ حذف فقرة إضافية تقول أنه «بالرغم من أن النص مخالف، لا يسري بند حصر التمثيل التجاري على الأشخاص الثالثين، إلا إذا أعلنه الوكيل بقيده في السجل التجاري، وعلى المواد المصنفة من الكماليات دون سواها».
قد يكون لإلغاء الوكالات الحصرية أثر إيجابي في حال ترافق مع خطة رقابية وآلية واضحة لتطبيقها وتنفيذها، إلا أن هذا الالغاء في ظل هذه الضبابية التي تلّف لبنان لن يفي بالهدف المرجو ان لم ترافقه تدابير واجراءات تضمن ضبط المعابر الحدودية غير الشرعية والمراقبة الفاعلة على المعابر الشرعية، كما وتنظيم الأعمال التجارية وضبط الأسواق بالتزامن مع تحديد أسس المنافسة ومعاييرها والا نكون قد انتقلنا من احتكار الى مأزق يلقي بقبضته على الاقتصاد الوطني وعلى صحة وسلامة المستهلك ويطال حقه في الحماية المكرس بموجب القانون.
ومن وجهة نظر منطقية، فان العديد من الشركات الكبرى المنتجة يهمّها التعامل مع موزع واحد دون سواه، وليس بالضرورة ان يخلق ذلك احتكاراً خاصة اذا كانت من الشركات التي تعمل على ضمان جودة ونوعية منتجاتها وتحرص على عدم تقليدها واغراق الاسواق بمثيلاتها مما لا تتمتع بنفس الجودة. هذا بالاضافة الى احتواء معظم الشركات اللبنانية التي تتعاطى اعمال التمثيل التجارية والوكالات الحصرية، على اعداد هائلة من الاجراء العاملين الذين يعتاشون منها الامر الذي يؤدي الى المساس بحياتهم ومستقبلهم في حال الغائها.
ومن الواضح ان المطالبة بالغاء الوكالات الحصرية هو موقف نابع من الشعب ليس الاّ وهو يهدف الى غض النظر عن المشكلة الاساسية المتمثلة في غياب الدولة واجهزتها وعجزها الفاضح عن ملاحقة المحتكرين ومحاسبتهم، والقيام بدورها في مطالبة الموزع بالشفافية في تحديد الاسعار وعدم استغلال الوضع للاحتكار، خاصة وان مثل هذا الطلب ليس من شأنه تخفيف الاحتكار بل يفاقم مشاكل الاستثمار ويؤدي الى تراجعه.
وعلــيه، ان ضبط الاحتكار غير مرهون بوجود الوكالات الحصرية أم عدم وجودها بل بالمنافسة ومدى وجود ضوابط لتنظيم السوق سيما وان الغاءها لا يؤدي الى الغاء الاحتكار الذي يجد مكانه حتى في غيابها في ظل غياب قانون عادل ينظم المنافسة الشريفة بين التجار وحتى الشرسة منها وسلطة تمارس صلاحياتها بحزم في ضبط الحدودو محاسبة المحتكرين ومنع الاحتكار، ومن دون ذلك فان الغاء الوكالات الحصرية ان حصل سيصبّ في مصلحة شريحة معيّنة من المجتمع على حساب شريحة اخرى.
وختاماً، السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هل تحضر حقوق المستهلك وضبط الحدود ومعابر التهريب على طاولة النقاش أم أنها مغيب عن أذهان من يهتف بإلغاء الوكالات الحصرية؟