(1) تواجه المالية العامة أزمات غير مسبوقة أهمها حجم الدين العام المتراكم، البطالة والعجز في تحقيق الأهداف التنموية والاجتماعية والثقافية والصحية والتخمة في القطاع العام والركود الإقتصادي.
وان كانت الموازنة العامة هي اداة الحكومة لتحقيق خططها وبرامجها، فهي أيضاً مرآة لهذا الاداء. سياسة الموازنات غير المتوازنة المترافقة مع ارتفاع حجم ديون الدولة نسبة للناتج المحلي الاجمالي، اضافة الى تعثر الدولة وعدم ايفائها لديونها الداخلية والخارجية وعجزها عن الاستمرار في نهج الاستدانة، نتج عنها فقدان الانتظام المالي والخروج عن القواعد الاساسية والطبيعية للعلوم المالية.
ان قوانين الموازنة والانظمة الضريبية والمحاسبة العمومية بشكل عام قد تحتاج الى اعادة هيكلة لتصبح على درجة عالية من الكفاءة والمرونة والسرعة والشفافية لمعالجة الازمات المتفاقمة وللحؤول دون الوقوع مرة تلو الاخرى في شركها، وهذا الاصلاح القانوني يهدف الى رسم خطط مستقبلية ترمي في نهاية المطاف الى تحقيق عدالة اجتماعية وتأمين حياة افضل للمواطنين على الأصعدة كافة.
وان سلمنا ان اساس علوم المالية العامة هو الانتظام المالي، الا ان هذا الانتظام لا يستوي الا وفق اصول ومعايير تفرض في المرحلة الحاضرة عن طريق عقد اجتماعي وطني جديد
Vers un nouveau contrat social pour les finances publiques, socle d'une réforme de l'Etat(2).
وفي ظل تعذر ابرام هذا العقد الاجتماعي الوطني، تمّ اللجوء الى المعايير الدولية المحددة من قبل الامم المتحدة من خلال صندوق النقد الدولي، هذه المعايير والاصول والهندسات المالية تؤمن شفافية الموازنة وشمولها وحداثتها وموثوقيتها.
وهنا نستذكر احد اهم الباحثين في العلوم المالية والاقتصادية JOHN MAYNARD KEYNES، الذي كان وراء فكرة انشاء صندوق للنقد الدولي الى جانب DEXTER WHITE، نرى في الخطة الاقتصادية المقترحة في لبنان استيحاء من الفكر الكينزي Perspective Keynésienne عند قوله ان:
«الافكار والمعارف والعلوم لا بد ان تكون دولية بطبيعتها ولكن لتكن السلع محلية كلما كان ذلك ممكناً وملائماً وفي المقام الأول فليكن التمويل وطنياً».
وتفيدنا الكينزية في وضع موازنة حكومية للاستثمار وتطبيقها والتصدي للاعاقات التي قد تثيرها الانظمة السياسية(3).
هذه العلوم والافكار الدولية حُددت وتمت صياغتها على شكل معايير وأنظمـــــــة
وأدلــــة صادرة عن صندوق النقد الدولي IMF ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE والبنك الدولي WB، وهذه المعايير المعتمدة للقطاع العام والمعروفة بـ IPSAS International public sector accounting standards هي مستوحاة من القطاع الخاص IFRS International financial reporting standards(4)
وهي تضمن اعداد موازنات وتبعاً لها تقارير مالية تتضمن عرضاً للأداء المالي الحكومي يتسم بالشمول والدلالة والحداثة، ويتم فيه اظهار المخاطر المحتملة الامر الذي يعزز الثقة بالمسؤولين كما يتيح لاجهزة الرقابة امكانية المساءلة والمحاسبة اذ ان المعيار الأهم هو المعيار الدولي للافصاح عن المعلومات المتعلقة بالموارد العامة واعتماد تدابير آنية وفورية لمكافحة الفساد واستعادة الاموال المتأتية عنه (يراجع قرار مجلس الوزراء رقم 4 تاريخ 28/4/2020، بهذا المعنى لجهة تفعيل التدقيق الضريبي، التحقيق المحاسبي، تطبيق المادة الخامسة من قانون السرية المصرفية وإدراج بند في دفاتر الشروط لرفع هذه السرية، تفعيل رقابة ديوان المحاسبة في مجال الرقابة اللاحقة على حسابات الاشخاص المعنويين والطبيعيين الذي يتلقون من الادارة مساهمات او اصول او يجرون معها عقوداً او التزامات).
وما لا شك فيه ان الأثر المباشر لاعتماد هذه المعايير سيكون على اعداد الموازنة العامة واقرارها وتنفيذها ومراقبة تنفيذها.
فتُقدم الحكومة تنبؤات وتقديرات الموازنة وفق عرض شامل لآفاق المالية العامة المتوحدة على مستوى الشمول والتنظيم والمستندة الى احصاءات ودراسات اقتصادية كلية(5) وشاملة للقطاع العام (دولة وبلديات ومؤسسات عامة وكل جهة تموّل جزئياً او كلياً بواسطة المال العام(6)).
ويكون على السلطة التشريعية اقرار الموازنة ضمن المهل والتوقيت المحدد لها.
ورغم مراعاة مبدأ سنوية الموازنة لجهة عرض الموازنة ومناقشتها واقرارها في الوقت المناسب،تضاف الى أسس الموازنة اطارات متوسطة الاجل لجهة النتائج والتوقعات (ايرادات ونفقات وتحويلات) فتفصح الحكومة عن مشاريعها الاستثمارية لسنوات متعددة وتجري تحليلها للكلفة وتنظم الشراء الحكومي المستدام ضمن مناقصات مفتوحة وتنافسية.
وتتحول الموازنة من مجرد موازنة بنود الى موازنة برامج واهداف واضحة قابلة للتدقيق والقياس ضمن اطر المالية العامة الحديثة (Performance).
ويتم الخروج عن بعض المبادئ الصارمة لتخصيص الاعتمادات ويعتمد التبادل بينها كما هو الحال في فرنسا (Fongibilité des crédits).
وتدرج في الموازنة الاصلاحية، الى جانب النفقات الادارية العادية (راتب واجور) والنفقات الاقتصادية والاجتماعية (مشاريع استثمارية ومساهمات)، والى جانب التقديرات الضريبية ومجمل الايرادات العامة البنود التالية:
1- مخصصات الطوارىء
2- ادارة الاصول والخصوم
3- الشراكات بين القطاعين العام والخاص
4- الموارد الطبيعية واستغلالها وادارتها.
5- المخاطر البيئية والكوارث الطبيعية.
6- المخاطر المالية او المشتقات المالية (مخاطر اسعار الفائدة، مخاطر الائتمان...)
7- الاقتراض غير المباشر كالحسابات المستحقة الدفع والتي لم تدفع بعد او الضرائب المستردة غير المؤداة.
اما الرقابة الفعالة على تنفيذ الموازنة فتكون بمواكبة هذا التنفيذ بتدقيق داخلي تصدر بنتيجته تقارير تدقيق محاسبي مالي منظم، تتظهر فعاليته قوة او ضعفاً بحسب شمولية هذه التقارير وتوقيتها وجودتها. فالتقارير المالية تقدم تغطية دقيقة للقطاعات العامة كافة بجميع ارصدتها (اصول، خصوم، ثروات) وبجميع تدفقاتها (نفقات وايرادات ومصادر تمويل) كما تتطرق الى تغطية النفقات الضريبية او ما يعرف بالخسائر في الايرادات بحسب القطاع او المجال (سياسات ضريبية، تهرب ضريبي....).
وهذه التقارير تكون دورية (كل ستة اشهر) أو سنوية تنشر فيها الكشوفات المالية المدققة عن فترة اثني عشر شهراً على أبعد حد، وتتضمن نتائج موضوعية شفافة حول طرق استخدام الموارد العامة بالاضافة الى احصاءات مالية تسهل عملية المقارنات المالية وفقاً للأسس الدولية، كما يظهر نتيجتها رصيد المالية العامة والدين العام وكل تغير في رصيد الدين العام (اعتماد مقارنة ومطابقة بين أرقام قانون الموازنة بعد إضافة الاعتمادات الإضافية والارقام الفعلية بعد التنفيذ وفق قطع الحساب).
ويجب نشر هذه التقارير لتكون بمتناول المواطنين تعزيزاً للشفافية وتأميناً لمشاركة المستفيد الفعلي اي المواطن في العملية المالية،
والخلاصة، انه في ظل الاتجاه عالمياً الى العلوم المالية الرقمية او علم التحكم الآلي المالي cybernétique financière والعمل على انظمة محاسبية مدعمة بذكاء اصطناعي تؤمن مراجعة الحسابات IT auditing او ابعد من ذلك عند الحديث عن التدقيق المحاسبي التحقيقي forensic Auditing توصلاً الى تحديد مكامن اي غش او هدر في انفاق المال العام، يبقى استقلال اجهزة الرقابة المالية العليا، Supreme audit institutions وتعزيز وتدريب جهازها البشري والتقني هو مفتاح الاصلاح، على امل التعافي.
(تحميل النسخة الكاملة)
(1) - (John Maynard Keynes, An open letter to President Roosevelt, 1933, *New York times*, Sunday issue 31st December)
(2) (M. Bouvier, M.C Esclassan, J.P. Lassale, Finances Publiques, 17e édition, 2018- 2019, p 41)
(3) (البير داغر، فكر كينز مصدر لبرنامج وطني للاصلاح، جريدة الاخبار، 4/7/2017)
(4) يراجع التقرير السنوي لديوان المحاسبة عن عام 2005 حيث اقترح الديوان اعتماد انظمة محاسبية منسجمة مع المبادىء المحاسبية في القطاعين العام والخاص لجهة تغطية الاعتمادات المدورة من مال الاحتياط مع علم واضع النص ويقينه ان مال الاحتياط غير موجود.... وتكون بنتيجة قطع الحساب ان الرصيد قد يكون دائناً او مديناً وليس أن يمنع أن يحمل هذا الحساب الطبيعتين الدائنة والمدينة... وحين يكون مديناً يقيد العجز على حساب السلفات فيقفل حساب مال الاحتياط.
(5) تقييم تأثير سياسة الحكومة الجديدة على مختلف شرائح السكان على اساس الدخل/ الجنس/ المجموعات الجغرافية.
(6) نصت المادة 6 من قانون المحاسبة العمومية على ما يلي: "تتألف موازنة الدولة من الموازنة العامة وموازنات ملحقة وموازنات استثنائية".