قرأتُ في "رباعيات" عمر الخيّام[1] الأبيات التالية:
نَلْبَسُ بَيْنَ النَّاسِ ثَوْبَ الرِّياءْ وَنحْنُ فِي قَبْضَةِ كَفِّ القَضَاءْ
وَكَمْ سَعَــيــنـــا نَرتَــجِـي مَـــهْـــربًا فَـــكَـــانَ مَـــسْعَـــانـَـــا جَـمِـيــعًـا هَباءْ
وإذا كان معنى كلام عمر الخيام، أنّنا نتردّى بثوب الرياء تمويهاً وخداعاً، لاستجلاب منفعة شخصية من مالٍ أو جاهٍ، أو لأجل الحصول على مكسب أو منصب؛ ونحن لا ندري متى تعصف رياح القدر بنا، وتجعلنا هباءً منثوراً، إلا أنّ إسقاط هذه الأبيات الشعرية على الواقع اللبنانيِّ عموماً والقضائي خصوصاً، يوجّهنا الى معنىً آخرَ، يصبُّ في التّعبير عن حقيقة العُري الذي أمسينا فيه.
يطالبون بإنصاف أهالي ضحايا إنفجار النيترات في مرفأ بيروت قولاً، ويقومون بعرقلة إجراءات التحقيق فعلاً؛
ينادون بحياد المحقق العدلي، ويهدّدونه في عقر "بيته" (العدليّة) على سبيل الإحتياط!
يرفعون صوتهم للمطالبة بأنّ يشمل التحقيق الجميع، ويضعون حصاناتٍ وخطوطاً حمراً على البعض!
أليس هذا هو الرياء بعينه "ما يرتدون بين الناس"؟!
وبرياؤهم المفضوح، على قاعدة "على عينك يا تاجر"، أمسكوا بقبضتهم السياسية والأمنية على يد القضاء، ومنعوه من أن يقبض بكفّه على مطرقة العدالة، ويضرب على الطاولة، فحوّلوه الى "صنمٍ جاهليٍّ"، والصنم في الجاهليّة، كان يُعبدُ في الغداة، وعندَ العشاءِ كان يُؤكلُ!
أغرقوه بصلياتٍ من طلبات الردّ، بلغ عددها أكثرُ من خمسٍ وثلاثين، في سابقة قضائية لم يشهد التاريخ البشري لها مثيلاً من قبل، تناوب المطلوب استماعهم والتحقيق معهم على تقديمها، بما يُشبه
لعبة course de relais، وذلك في إطار سعيهم للتهربّ من التحقيق.
المدعى عليهم في قضية المرفأ ينقسمون الى فئتين، كلّ فئةٍ منها محسوبة على فريقٍ متحالفٍ سياسياً مع الفريق الآخر، ولكنّ الفارق بينهما، أنّ الفريق الأول قد جرى توقيفه، في حين أنّ الفريق الثاني حرٌّ طليق، الأمر الذي خلق أزمةً بين فريقين كان يُفترض سياسياً وقانونياً أن يكونا في خندقٍ واحد.
فالموقوف، يريد البت بمصيره، وهذا الأمر مستحيل قانوناً إلا عبر قاضي التحقيق العدلي، المغلولة يده، بفعلِ تصرّفات الفريق الثاني الحرّ، الذي يرى بدوره، أنّ مصلحته، هي بإبقاء التحقيق مجمّداً لإبعاد كابوس مثوله أمام المحقق العدلي أطول فترة ممكنة.
اليوم، الوقت يُداهم الفريق الموقوف، إذ لا يغيب عن نظر عاقلٍ، حالة الإنهيار التي تُصيب المؤسسات العامّة، ويبدو أنّهم يستشرفون سقوط الدولة نهائياً في نهاية العهد الرئاسي، ممّا سيجعلهم موقوفين الى أجل غير مسمى.
وإذا كانت الحال هكذا، فإنّه بالنسبة الى الفريق الطليق، لا شيء مُداهم، فأُدرج مرسوم التشكيلات القضائية الجزئية في مكتب وزير المال، وأقفل عليه لبضعة أربعة أشهر تحت ذرائع واهية قبل استرداده من وزارة العدل.
إزاء هذه "الزركة" تحرّكت المخيّلة القانونية الخصبة، وتفتّــــقت على استحداث منصبٍ قضائيٍّ لم ينصّ عليه أي قانون، هو منصب "قاضي التحقيق العدلي الرديف".
إنّ هذا الابتداع، لمنطقٍ نسبيٍّ خاص، مطرّزٍ على قياسِ أحدهم، يُخالف مبدأ شمولية العدالة، ويعبّر بأعمق المعاني عن زوال المدماك الأخير في هيبة السلطة القضائية، والتهدّم والإنهيار في هيكل الجمهورية.
وقد تبيّن أنّ طلباً موجّهاً بتاريخ 5/9/2022 من وزير العدل الى مجلس القضاء الأعلى، استند فيه الوزير الى إدخال أحد الموقوفين الى المستشفى وتردي الوضع الصحي للموقوفين، انتهى فيه الى طلب " العمل على البت بمبدأ تعيين محقق عدلي لمعالجة الأمور الضرورية والملحة طيلة فترة تعذر قيام المحقق العدلي الأصيل بمهامه – كطلبات إخلاء السبيل والدفوع الشكلية على سبيل المثال – وذلك الى حين زوال المانع الذي يحول دون ممارسة الأخير مهامه لحسن سير العمل القضائي وإحقاقاً للحق."
وفي محاولة لإضفاء المشروعية على طلبه، أرفق وزير العدل كتابه بما أعرب عن أنّه "سابقة قضائية" شهدها لبنان جرى فيها انتداب القاضي جهاد الوادي، كمحقق عدلي في قضية اغتيال رئيس الوزراء الشهيد رفيق الحريري بموجب كتاب من وزير العدل الأسبق شارل رزق عام 2006، وذلك خلال فترة سفر المحقق العدلي في القضية القاضي الياس عيد في رحلة علاجية خارج لبنان.
الصدمة للرأي العام، لم تكن بطلب وزير العدل، إنّما، بتجاوب مجلس القضاء الأعلى مع المطلب، وموافقته على مبدأ تعيين قاضي تحقيق عدلي "رديف" في ملف انفجار المرفأ، على أن يقترح وزير العدل اسم القاضي تمهيداً لإبداء مجلس القضاء رأيه، وذلك لحين تمكن قاضي التحقيق العدلي من وضع يده على الملف.
فما مدى قانونية تعيين المحقق العدلي "الرديف" في ظلّ وجود قاضٍ أصيل على رأس ملفه القضائي؟
وما هي تأثيرات هذا التعيين على الملف؟ وما هي العقبات التي قد تطرأ إزاء عمل كلا المحققين على القضية عينها؟ وهل بالإمكان الطعن بقرار مجلس القضاء بتعيين المحقق "الرديف" في ظلّ أن صلاحية تعيين المحقق العدلي هي من اختصاص وزير العدل بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى؟
سنتطرق في المبحث الأول الى أصول تعيين المحقق العدلي، وبيان مدى إمكانية تعيين عدة محققين عدليين في القضية الواحدة، ممكن أن يكونوا "ردفاء" لبعضهم البعض، كما، مدى جواز الإستناد الى السابقة التي حصلت في العام 2006 على الوضعية الراهنة.
أما في المبحث الثاني فسنبحث في العقبات التي قد تعتري التحقيق إزاء هذا التعيين المزدوج، كما، مآل التضارب في القرارات التي قد تصدر عن كليهما، منتهين الى بحث مدى إمكانية الطعن بقرار مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل، والمرجع الصالح لإبطال القرار.
وفي الختام سنتطرق الى تحليل الأسباب الموجبة التي حدت بوزير العدل ومجلس القضاء الأعلى الى اتخاذ مثل هذه الخطوة، سيّما إزاء ذهول كلّ منهما عن عدم البت بقضايا مئات لا بل آلاف الموقوفين، في ظلّ ما يُلحظ أنّه استماتة لإطلاق سراح الموقوفين في قضية انفجار مرفأ بيروت، وعدم اتخاذ أي إجراء "ملحّ" لاستكمال التحقيق مع باقي المطلوبين الطلقاء، منتهين الى التساؤل حول شكل السقوط المريع الذي ينتظرنا في ظلّ تخبّط السلطة القضائية العليا في البحث عن حلول للعُقَدِ المعقودة على عُقَدْ!
المبحث الأول: المحقق العدلي:
- اصول تعيين محقق عدلي
تنصّ المادة 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الواردة في اطار الباب الخامس المعنون،
" المجلس العدلي"، على أنّه يتولى التحقيق قاضٍ يعينه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى.
وبناءً على هذا التخصيص الوارد في القانون عن كيفية تعيين المحقق العدلي، في الحالات التي تمسّ أمن الدولة، والتي تقع من صلب اختصاص المجلس العدلي، فإنّ قاضي التحقيق العدلي يعتبر "محقق خاص"
"Ad Hoc"[2] ، ولا يشبه أي قاضي تحقيق آخر في شيء، إذ يعيّنه وزير العدل، ممّا يعني أنّه " قرار سياسي في شأن قضائي"[3]، وهذا ما لا نجده في أي قاضي تحقيق آخر.
وتجدر الإشارة، إلى أنّ صلاحية وزير العدل بتعيين المحقق العدلي، ليست مطلقة، إذ أنّ النص يفرض "موافقة" مجلس القضاء الأعلى على التعيين وذلك بصراحة النصّ، علماً أنّه قد جرت العادة على تعيين محقق عدلي بالتوافق بين الإثنين.
- مدى إمكانية تعيين عدة محققين عدليين في قضية واحدة
ومن خلال الإطلاع على نصّ القانون، يتبين من خلال التفسير الحرفي له، أنّه يتحدث عن " قاضي تحقيق عدلي" وحيد، من خلال القول بأنّه "يتولى التحقيق قاض يعيّنه وزير العدل"، ولم يرد في النصّ أي ذكرٍ لإمكانية تعيين عدة قضاة تحقيق عدليين تحت أيِّ مسمّى كان، وذلك بخلاف ما ورد في المادة 357 أصول جزائية التي تنصُّ على تأليف المجلس العدلي من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيساً ومن أربعة قضاة من محكمة التمييز أعضاء و قاضٍ إضافي أو أكثر ليحل محل الأصيل في حال وفاته أو تنحيته أو رده أو إنتهاء خدمته.
وكذلك الأمر بالنسبة الى النيابة العامة التي ينصّ القانون صراحةً على أنّها تمثل لدى المجلس العدلي بالنائب العام التمييزي أو من ينيبه عنه من معاونيه.
فلو أراد المشرّع، إجازة تعيين عدّة محققين عدليين، لكان وجب عليه ذكر ذلك صراحةً، أسوةً بأعضاء المجلس العدلي، ولو أراد المشرّع إجازة تفويض المحقق العدلي صلاحياته الى محققين عدليين مساعدين أو رديفين أو مناوبين، لكان أورد ذلك في النصّ على غرار ما فعل بالنسبة الى النائب العام التمييزي، خاصّةً أنّ قانون أصول المحاكمات الجزائية هو قانونٌ خاص لا يجوز التوسّع في تفسيره.
إذ تقتضي الإشارة أنّ المشرّع قد سكت عند حدِّ تعيين المحقق العدلي الواحد، ولم يعطِ مجلس القضاء ووزير العدل، صلاحية تعيين محقق أو محققين آخرين معاونين أو ردفاء أو مساعدين أو مهما كانت مسمياتهم أو صفتهم، كما لم يعطِ المحقق العدلي نفسه صلاحية تعيين من ينيبه عنه، أو حتى صلاحية تعيين محقق عدلي معاون له، على غرار ما فعل بالنسبة الى النائب العام التمييزي، كما لم يجز للمحقق العدلي بأي حال من الأحوال تكليف أي قاضي تحقيق آخر لإجراء مهمّة التحقيق.
وبالتالي فإنّه من الجلي أنّ القانون اللبناني، قد اعتمد مبدأ "وحدانية قاضي التحقيق"
La singularité du juge d'instruction وما يؤكد على "وحدانية" قاضي التحقيق، إجمالاً في القانون، وخصوصاً بالنسبة الى قاضي التحقيق العدلي، هو نصّ المادة 341 من قانون أ.م.ج. التي تنصّ على أنّه: " إذا وضع قاضيا تحقيق في دائرة واحدة يديهما على جرائم متلازمة فلقاضي التحقيق الأول أن يسمّي أحدهما لمتابعة السير بالتحقيق. إذا كان قاضيا التحقيق تابعين لدائرتين مختلفتين فتعين الغرفة الجزائية المختصة لدى محكمة التمييز، بناءً على طلب النائب العام التمييزي، قاضي التحقيق الذي سيتابع النظر في الدعوى."
- ولكنّ، قد يؤول البعض الى القول، أنّ المبدأ القانوني يقوم على أنّ " الأصل في الإشياء الإباحة" وأنّ " التحريم يكون بنصّ"، فإذا كان النص لم يتطرق الى "منع الأمر" فيكون هذا الأمر جائزاً، وعليه، إذا كان لا يوجد أي نصّ في القانون يمنع وزير العدل من تعيين محققين آخرين في القضية عينها سواء أصيلين أو رديفين أو نواباً أو مساعدين، أو يمنع قاضي التحقيق العدلي عينه من تعيين معاونين له، فإنّ الأمر يكون جائزاً عملاً بهذين المبدأين المذكوين.
وردّاً على أصحاب هذا الرأي، فإنّه استناداً إلى مبدأ عدم جواز التوسع في تفسير النصوص الجزائية، وبالتالي تحميلها معاني لا تتضمنها، لا يجوز تطبيق مبدأ الإباحة في ضوء صراحة النصّ، الذي تناول تعيين محقق عدلي، وبالمقابل، نصّ على تعيين قاضي رديف في هيئة المجلس العدلي، فلو أراد المشرّع التوسّع بخصوص تعيين عدة محققين عدليين في قضية واحدة لكان وجب عليه أن ينصّ على ذلك صراحةً.
- كما أنّ المؤيدين لفكرة تعدد المحققين العدليين يستندون الى سابقة تعيين قاضٍ ثانٍ في 2006 في سياق قضية التحقيق في مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، إذ قد جرى فيها انتداب القاضي، جهاد الوادي، كمحقق عدلي في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، بموجب كتاب من وزير العدل الأسبق شارل رزق عام 2006، وذلك خلال فترة سفر المحقق العدلي في القضية القاضي إلياس عيد في رحلة علاجية خارج لبنان.
إنّ هذا السبب ساقط، لأنّ هذا التعيين هو مخالف للقانون من حيث المبدأ، للأسباب المبينة آنفاً، وبالتالي لا يمكن قبول اعتبار، قرار خاطىء صدر في الماضي، لم يعلم به أحد، سيّما القاضي المعني، ونعني به القاضي جهاد الوادي[4]، ولم يتم تنفيذه مطلقاً، سابقة قانونية legal precedent، سيّما أنّه من المعلوم قانوناً أنّ لأجل اعتبار القضية "سابقة" يُستند إليها مستقبلاً، أن تكون تلك القضية أو المسألة مستندة الى قاعدة قانونية، وأن تكون قد عُرضت على المحاكم العليا وطبقتها وأقرّت بها، فمن غير المنطقي مثلاً الإستناد الى قرار وزاري خاطىء صدر في الماضي مثلاً ومناقض لصراحة النص القانوني لاعتباره سابقة قانونية.
مع الإشارة إلى أنّه لا مندوحة من التذكير أنّ القانون اللبناني هو قانون "وضعي" حيث لا يكون للقرارات السابقة عادةً الأثر الملزم والأسبقي نفسه الذي تحدثه في عملية صنع القرار بموجب القانون العام.
ومن جهةٍ ثالثة، فإنّه وإن كان يمكن قبول فرضية تعيين قاضٍ بديل في حال شغور المركز بسبب سفر القاضي الأصيل أو وفاته أو استقالته، إلا أنّه في الحالة الراهنة، فإنّ مركز المحقق العدلي ليس شاغراً، حيث أنّ القاضي المعيّن لا يزال في مركزه، وينتظر صدور نتائج طلبات الردّ ودعاوى المخاصمة عن الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وبالتالي لا يمكن انتداب قاضٍ ينوب عنه والتذرّع بالقرار الصادر عام 2006 لجهة ملء الشغور الجزئي والمؤقت في ملف الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لأن مركز قاضي التحقيق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت لم يشغر بعد.
- يبرر أصحاب رأي إمكانية تعيين قاضٍ رديف، أنّ الحالة الإنسانية للموقوفين في القضية و" تردي الوضع الصحي" و"دخول أحدهم بصورة طارئة إلى المستشفى نظراً لتدهور حالته الصحية"، يُعتبر سبباً مناسباً لتعيين محقق رديف إذا لم يكن بإمكان الأصيل تنفيذ مهمته.
وهذا السبب مردود أيضاً، إذ أنّ حالة الموقوفين تتشابه مع حالات الموقوفين بقضايا جنحية عادية وأقل خطورة من قضية انفجار المرفأ، كما أنّ مسؤولية سلامة الموقوفين وصحتهم النفسية والجسدية لا تقع على عاتق قاضي التحقيق أو على كاهل العدلية، بل على إدارة السجون والدولة اللبنانية.
- الحلّ البديل:
-
-
- أقيلوه ! وهو أكره الحلال!
إنّ قاضي التحقيق العدلي هو قاضٍ مسمّى باسمه ومعيّن بشخصه بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى من قبل وزير العدل، وبالتالي فإنّه عملاً بمبدأ موازاة الصيغ الشكلية، يمكن اعتماد الطريقة عينها لإقالته وتعيين قاضٍ آخر يتولى التحقيق، بمعنى أنّه لا يوجد أيُّ مانعٍ قانوني أن يقوم وزير العدل بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى ويُصدر قراراً بإقالة المحقق الراهن وتعيين آخر، علماً أنّ آراء أخرى قد ذهبت الى عدم إمكانية إقالة المحقق العدلي من قبل وزير العدل حتى لو وافق مجلس القضاء الأعلى، باعتبار أن قانون أصول المحاكمات الجزائية في الباب الذي ينظم المجلس العدلي والأحكام المتعلقة به هي أحكام خاصة واستثنائية ولا يجوز التوسع بتفسيرها، وعليه فإن المحقق العدلي يستمرُّ بأداء مهمته الى أن ينتهي الملف.
وبرأينا هذا النهج هو خاطىء، إذ، أنّه بما أننا اعتبرنا المحقق العدلي، هو محقق خاص Ad Hoc، ومحدّد بشخصه، ويتولّى مهمّة التحقيق بقضية محدّدة، وليس على غرار قضاة التحقيق العاديين الذين تحال القضايا الى غرفهم (إجمالاً ومن حيث المبدأ) بغض النظر عن أشخاصهم، عملاً بقرار توزيع الأعمال الذي يديره قاضي التحقيق الأول، فإنّه بالتالي يمكن القول أنّ وزير العدل وبموافقة مجلس القضاء الأعلى قد عيّنا وكلّفا هذا القاضي المحدّد بشخصه لتولي التحقيق في القضيّة، وهذا القاضي يتقاضى من الدولة اللبنانية بدلاً إضافياً يُضاف الى راتبه بسبب توليه هذا التحقيق، وبالتالي، إذا ارتأى وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى، أنّ أسباباً جوهرية قائمة تحول دون إمكانية تنفيذه لمهمّته، فإنّه لا مانع من إقالته من منصبه وتعيين قاضٍ آخر بدلاً منه.
وهنا لا مجال لإعمال قاعدة فصل السلطات، أي فصل السلطة الإجرائية عن السلطة القضائية، لأنّ هذه الإقالة يجب أن تتمّ بالإشتراك والتوافق والتآمر بين السلطتين القضائية والتنفيذية الممثلة بوزير العدل، وإلا عدّت لغواً.
فالمحقق العدلي، وبسبب أنّه محقق ذو طبيعة خاصة، بمعنى انّ مهمته تنتهي بانتهاء التحقيق في القضية المكلّف إياها واصدار قراره الاتهامي فيها واحالته الى المجلس العدلي، تكون طبيعته الخاصّة غير فعّالة وغير قابلة للتحقيق إذا لم يكن قادراً بصورة سريعة وسلسة من تخطّي عقبات إجرائه التحقيق، لأنّ تلك الطبيعة الخاصة، مرتبطة ارتباطاً عضوياً بإمكانية تنفيذه لمهمّته المكلّف بها، فإذا قام حائلٌ دون إمكانيّة تنفيذه لمهمّته في التحقيق، أضحت إقالته أو استبداله واجباً، لأنّ الهدف هو إجراء التحقيق والوصول الى نتيجة فيه.
-
-
-
- التئام رؤساء غرف محاكم التمييز الحاليين! وهو أفضل الحلول!
لم يعد يخفى على أحد أنّ العلّة في توقف التحقيق، عدا عن ضخامة عدد طلبات الردّ والنقل والمخاصمة، هو عدم توقيع وزير المال لمرسوم التشكيلات الجزئية لرؤساء محاكم التمييز، وتذرّعه بسبب عدم التوازن الطائفي[5]، وهو سببٌ واهنٌ مردودٌ لا أساس له، لأنّ رؤساء الغرف متوازنون من حيث العدد الطائفي، ولا يمكن احتساب الرئيس الأول من ضمنهم لأنّه لا يرأس غرفة محكمة تمييزية.
ولكنْ، من المعلوم، أنّه وإن شغرت بعض المراكز في رئاسة محاكم التمييز بإحالة قضاتها الى التقاعد، إلا أنّ رئاسة أي غرفة لم تشغر فعلياً بسبب تعيين قضاة مكلّفين ترؤس هيئاتها.
وبما أنّ القاضي بالتكليف، يتمتّع بنفس الصلاحيات التي يتمتع بها القاضي الأصيل، فلا شيء يمنع قانوناً من أن تلتئم الهيئة العامة لمحكمة التمييز بقضاتها الأصيلين العاملين والمكلفين مكان من شغرت مراكزهم والبت بالدعاوى المعروضة أمامها والواقعة ضمن اختصاصها، ممّا سيؤدي بالنتيجة الى تحرير التحقيق العدلي من جموده.
ونرى أنّ الهيئة العامة لمحكمة التمييز وهي تنظر بالملفات المعروضة أمامها، لها أن تتصدّى إذا ارتأت ذلك، إلى الحالة العامة التي اعترت ملف التحقيق واعتماد المدعى عليهم اسلوب الطعن بالمحقق العدلي للتهرب من التحقيق والتأسيس لسياسة قضائية صارمة باجتهادٍ موحّد يؤدّي الى قطع الطريق أمام التعسّف القضائي.
علماً أنّه لا مندوحة من تعديل أصول المحاكمات المدنيّة لجهة الغرامات التي يتضمنها نتيجة التعسّف باستعمال طرق المداعاة تبعاً للإنهيار الحاصل في قيمة العملة الوطنية.
المبحث الثاني: إشكاليات ازدواجية التعيين، وابطال القرار
في مطلق الأحوال، تبيّن أنّ تعيين المحقق الرديف، والسير فيه دونه آثار على التحقيق لنواحي عديدة، فهو تعيين باطل، ولكنّ طبيعة قرار "تعيين قاضي تحقيق عدلي رديف" هي طبيعة خاصّة، الأمر الذي يحدونا الى البحث في تصنيفه وفي إمكانية الطعن فيه.
- التأثير المرتقب للتعيين المزدوج على التحقيق
إنّ سلطة وزير العدل محصورة بتسمية المحقق العدلي فقط بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، وهذا المحقق يتمتع بصلاحيات محددة في قانون أصول المحاكمات الجزائية، ممّا يعني أنّ أي قاضي تحقيق عدلي، ومهما كان مسمّاه الوظيفي (رديف، معاون، أصيل، منتدب...) سيكون متمتّعاً بتلك الصلاحيات بجملتها، وبالتالي سيكون لدينا محققان عدليان لقضية واحدة، يتمّتّع كلٌّ منهما بكامل الصلاحيات في القضية عينها، الأمر غير المسبوق في أي نظام قضائي في العالم.
بادىء ذي بدء، وعند تسميته سيكون على المحقق الرديف المزمع، أن يتصدى لإمكانية تقديم طلبات ردّ بحقه بمجرّد تعيينه، وقبل أن يتسنى له وضع يده على الملف، الأمر الذي سيدخله في حالة الجمود شأنه شأن الأصيل، وبذلك يضحي تعيينه من دون أي جدوى.
أمّا بالنسبة الى الملف، وهنا، والملف موضوع تحت يد المحقق العدلي الأصيل، فلن يستطيع هذا الأخير إحالته الى قاضي تحقيق آخر، لأنّ يده أصلاً مجمّدة عن اتخاذ أي قرار فيه، وهنا أيضاً تنعدم الجدوى من تعيين المحقق الرديف لأنّه سيكون عاجزاً عن وضع يده على الملف.
- طبيعة قرار التعيين وإمكانية الطعن به
ينبري التساؤل حول الطبيعة القانونية لقرار تعيين المحقق العدلي، ممّا يفيد في تحديد الإطار القانوني للمراجعة ضدّه.
وإذا كان وزير العدل، هو من يقوم بتعيين المحقق العدلي بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى، يضحي من القرار قراراً وزارياً إدارياً، أي عملاً من أعمال الإدارة، ويكون بالتالي المرجع المختص للطعن به هو مجلس شورى الدولة.
ويحق لأي متضرر من القرار، التقدّم بالمراجعة بوجه الدولة اللبنانية وفقاً للأصول الإدارية لإبطال قرار الوزير كما طلب اتخاذ جميع التدابير الإحتياطية للحيلولة دون نفاذه، كطلب وقف تنفيذه مع طلب تقصير المهل...
الخاتمة
من خلال التمعّن بطلب وزير العدل الموجه الى مجلس القضاء، وبغضّ النظر عن صيغته اللغوية والتي حاول من خلالها تجنّب عبارات أمرية موجهة الى مجلس القضاء الأعلى، إلا أنّه لا يخفى على عاقلٍ، أنّه من قراءةٍ إجمالية لمضمون النصّ، يتبدّى أنّه يشكّل أمراً موجّهاً الى السلطة القضائية لاتخاذ إجراء معيّن، ممّا يخالف بشكلٍ فاضح مبدأ استقلال السلطتين، حيث أنّ كتاب وزير العدل لم يأتِ على سبيل أخذ الرأي أو الإقتراح، وإنّما بصيغة الأمر.
ومن خلال النظر الى الأسباب الموجبة، القائمة على إدخال أحد الموقوفين الى المستشفى؛ وتردي الوضع الصحي للموقوفين؛ وهي التي دفعت وزير العدل الى ارسال هكذا طلب ومجاراة مجلس القضاء الأعلى له بالموافقة عليه، يعترينا الذهول إزاء مقدار التعالي الذي يعتري عمل سلطة العدالة في لبنان بوجهيها السياسي والقضائي حيث صحّ فيها ما قاله جبران:
العدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا
سيّما إزاء ذهول كلّ منهما عن عدم البت بقضايا مئات لا بل آلاف الموقوفين الآخرين العاديين، غير المدعومين سياسياً من أي طرف، إزاء ما يُلحظ، أنّه إستماتة لإطلاق سراح تسعة عشر موقوفاً في قضية انفجار مرفأ بيروت، وعدم الحماس لدى أي من وزير العدل أو مجلس القضاء لاتخاذ أي إجراء "مُلِحٍّ" لاستكمال التحقيق مع باقي المطلوبين الطلقاء في الملف.
كما أنّه على رغم ما يمكن أن نبديه من تفهّم للأسباب الموجبة التي حدت بوزير العدل ومجلس القضاء الأعلى الى اتخاذ قرار تعيين محقق رديف للمحقق الأصيل في قضية انفجار مرفأ بيروت، وبهذا الشكل المخالف لأبسط قواعد المنطق القانوني، إلا أنّ هذا التفهّم سرعان ما يتبدد إزاء الإدراك، بأنّ كلّ هذه الجلبة والضوضاء المفتعلة، إنّما لمنفعة فئة محدودة من الموقوفين فقط، في حين أنّ القضاء بأجنحته الجزائية كافّة يقف مذهولاً لأسباب وذرائع شتى عن البت بقضايا مئات لا بل آلاف الموقوفين والذي تخطت فترة موقوفيتهم الحدّ الأقصى لما يمكن أن يُحكم عليهم.
لقد صرّح قائٌل، بأنّه ينظر الى سقوط الدولة ويترقبُ بَعدها سقوط القضاء، المدماك الأخير، ولكنّ المفاجأة كانت، مساهمةُ القضاء في سقوط الدولة، من خلال ترسيخِ مفهومٍ مؤاتٍ لعصرِ الإنهيار، كان ملتبساً عند الكثيرين من الناس، أنّ القضاء على الضعيف فقط، وأنّ القويّ هو أقوى من القضاء، وإذا سقط قويٌّ يوماً في براثن القضاء فلأنه رُفِعَ الغطاء عنه، أمّا القويُّ القويُّ فيظلُّ فوق القانون، فوق القضاء، فوق البشر!
فهل سيكون للبنانيين العاديين رأيٌ آخرَ، يفرضونه في لبنانَ القائمِ من الموت؟
[1] هو غِيَاث الدِّين أبو الْفُتُوح عُمَر بن إِبْرَاهِيْم بن صّالحَ الخَيّام النَيْسَابُوْرِيْ المعروف باسم عُمَر الخَيّام عالم فلك ورياضيات وفيلسوف وشاعر فارسي ، ويذهب البعض إلى أنه من أصول عربية، وُلِدَ في مدينة نيسابور، خراسان، إيران ما بين 1038 و 1048 م، وتوفي فيها ما بين 1123 و 1124، وله مما كتب "كتاب رباعيات" نقله الى العربية الشاعر المصري أحمد رامي.
[3]- حاتم ماضي: إحالة الجرائم إلى المجلس العدلي لا تخضع لشروط محددة، 5/7/2019، https://www.elnashra.com، (م. 18/9/2022)
[4] بيان للقاضي جهاد الوادي ، منشور في مجلة محكمة، على موقعها الأكتروني https://mahkama.net بتاريخ 8/9/2022، (م. 18/9/2022)
[5] - علماً أنّ دور وزير المال هو على سبيل أخذ العلم ومحصور في التأكد من تأمين اعتمادات لرواتب القضاة من ضمن الموازنة، لا أكثر ولا أقل، والقول بخلاف ذلك، من شأنه أن يعطي حق النقض لوزير المال فيما لا يختص بوزارته.