1 - مقدّمة: يُعتبر عقد الإيجار من أهمّ العقود في الحياة القانونيّة، إذ أنّ هذه الخدمة توفّر انتفاعاً مؤقّتاً بالمال المنقول وغير المنقول لمن لا يرغب بالتملّك أو لمن لا يستطيع لذلك سبيلاً. فقد أفرد المشرّع في قانون الموجبات والعقود "الكتاب الرابع" من القسم الثاني منه لتنظيم أحكام هذا العقد، ونُشير في هذا الإطار إلى أنّ أحكام هذه المواد هي مكمّلة لإرادة الفريقين لأنّ ما يُركن إليه في الأساس هو العقد المبرم بينهما والذي يتمّ الاتفاق بموجبه على جميع الأحكام والالتزامات المتبادلة عملاً بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين الذي كرّسه المشرّع في المادة /166/ من قانون الموجبات والعقود، إذ أنّ للأفراد أن يرتّبوا علاقاتهم القانونيّة كما يشاؤون بشرط أن يراعوا مقتضى النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونيّة التي لها صفة إلزاميّة.
وقد عرّف القانون عقد الإيجار في الفقرة الأولى من المادة /533/ ق.م.ع التي نصّت على ما حرفيّته: "إيجار الأشياء عقد يلتزم به المرء أن يولي شخصاً آخر، حقّ الانتفاع بشيء ثابت أو منقول أ بحقّ ما لمدّة معيّنة مقابل بدل يلتزم هذا الشخص إداءه إليه". وانطلاقاً من هذا التعريف يتبيّن لنا بأنّ البدل هو ركن جوهري من أركان العقد، وبالتالي لا يقوم عقد الإيجار إلاّ بوجود بدل يتناسب مع حقّ الانتفاع كما سوف نبيّنه أدناه.
2- موضوع المقال الحاضر: بعد اشتداد الأزمة الاقتصاديّة التي أصابت لبنان منذ أواخر العام 2019 نتيجة عدم استقرار الوضعين المصرفي والنقدي وتدهور قيمة الليرة اللبنانيّة أمام الدولار الأميركي حيث لامس سعر الصرف 48,000/ل.ل. للدولار الأميركي الواحد منذ وقت قصير، برزت عدّة "إشكاليّات" قانونيّة تناقشها رجال القانون على مدى السنتين الماضيتين ومنها ما عُرض على المحاكم وتمّ الفصل فيه من قبل القضاء. وهذه "الإشكاليّات" القانونيّة تتمحور حول تسديد بدلات الإيجار بالنسبة للعقود المبرمة بالعملة الأجنبيّة وتحديداً بالدولار الأميركي. فقد ظهرت بعض الآراء التي نهت عن إمكانيّة إبرام أو تنظيم عقد الإيجار بغير الليرة اللبنانيّة واعتبرت بأنّ العقود (أو البنود) المبرمة بعملة أجنبيّة باطلة. وهذا الرأي الشاذ يتناقض مع أبسط المبادئ الدستوريّة والمنظومة القانونيّة التي يقوم عليها الاقتصاد اللبناني كما سوف نبيّن أدناه. كما أثار البعض الآخر مسألة عدم جواز تسديد بدلات الإيجار بالدولار الأميركي وربطها بإلزاميّة قبول الليرة اللبنانيّة عند تسديد هذه البدلات معتبرين أنّه لا يجوز دفع بدلات الإيجار بالعملة الأجنبيّة بل حصراً بالليرة اللبنانيّة، وذهبت هذه الطائفة من رجال القانون بعيداً في تحليلها المغلوط والخاطئ وحادت عن الموضوع فاعتبرت أنّ ذلك هو انتهاكاً للنظام العام الحمائي للعملة الوطنيّة وجرماً جزائيّاً يعاقب عليه قانون العقوبات اللبناني. إلاّ أنّ الحقيقة والواقع القانوني غير ذلك على الإطلاق.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أنّ الاقتصاد اللبناني بقطاعاته كافة هو للأسف اقتصاد "مدولر" أي أنّه يعتمد على الدولار الأميركي في تسعير جميع السلع والخدمات وذلك منذ انتهاء الحرب في العام 1990، وحتى ما قبل ذلك، باعتبار أنّ العملة اللبنانيّة كانت ولا تزال غير مستقرّة تبعاً للأزمات المتلاحقة التي ألمّت بالاقتصاد الوطني على مرّ الزمن، وكان في منتصف الثمانينات من القرن الماضي أزمة مماثلة للتي نشهدها اليوم حيث انهارت الليرة اللبنانيّة مقابل العملة الخضراء آنذاك أيضاً. وتبعاً لذلك، وجد المتعاقدون، وخصوصاً في عقد الإيجار، ضالتهم باعتماد الدولار الأميركي كعملة للإيفاء في عقودهم آخذين بالاعتبار مسبقاً مخاطر التقلبات الاقتصاديّة وما ينتج عنها من أثر سلبي على قيمة بدل الإيجار لا سيما عند تدنّي القدرة الشرائيّة للعملة الوطنيّة.
3- سوف نقوم بمعالجة هذه "الإشكاليّات" على الشكل الآتي:
- مدى قانونيّة ابرام أو تنظيم عقد الإيجار بغير العملة الوطنيّة.
- مدى جواز تسديد بدلات الإيجار بالدولار الأميركي، وإلزاميّة قبول الليرة اللبنانيّة عند تسديد هذه البدلات.
- سعر الصرف الواجب اتباعه لأجل تسديد بدلات الإيجار.
- مدى قانونيّة ابرام أو تنظيم عقد الإيجار بغير العملة الوطنيّة:
يقوم الاقتصاد في بلادنا على المبادئ الليبراليّة منذ نشأة الدولة اللبنانيّة، وكرّس المشرّع ذلك في الفقرة "و" من مقدّمة الدستور اللبناني التي أضيفت بموجب القانون الدستوري 18/1990 تاريخ 21/9/1990 (وثيقة الوفاق الوطني) حيث نصّ على أنّ النظام الاقتصادي هو نظام حرّ. هذا بالإضافة إلى وجود نصوص قانونيّة عديدة في منظومة التشريع اللبناني تؤيّد تنظيم العقود والتداول بالعملات الأجنبيّة، فقانون الموجبات والعقود أقرّ في الفقرة الأخيرة من المادة /301/ منه على أن فرقاء العقد يبقون أحراراً في اشتراط الإيفاء بالعملة الأجنبيّة (مع الأخذ بعين الاعتبار تاريخ صدور هذا النص)، كذلك المادتين /356/ و/432/ من قانون التجارة البريّة المتعلّقتين بسند السحب وبالشك اللتين يُستفاد من نصّ كلّ منهمنا على جواز تنظيمهما بالعملة الأجنبيّة وأيضاً نصوص قانون النقد والتسليف الذي أجاز التداول بالعملات الأجنبيّة... وأنّه وبشكل عام يمكن القول بأنّ المنع يجب أن يكون منصوصاً عليه صراحةً في القانون عملاً بالقاعدة القانونيّة القائلة بأنّ "الأصل هو الإباحة أمّا المنع فيجب أن يكون بنصّ قانون صريح"، وبالتالي، نجد أنّ القانون اللبناني لا يكتفي بإباحة تنظيم العقود والتداول بالعملات الأجنبيّة، فحسب، بل أيضاً يشجّع ذلك. وانطلاقاً ممّا ذكر أعلاه فإنّ المتعاقدين في عقد الإيجار يمكنهم إبرام عقودهم بأيّة عملة يرغبون والقول بعكس ذلك ليس دقيقاً على الإطلاق من الناحية القانونيّة والاقتصاديّة.
- مدى جواز تسديد بدلات الإيجار بالدولار الأميركي، وإلزاميّة قبول الليرة اللبنانيّة عند تسديد هذه البدلات:
لقد كرّس المشرّع في قانون الموجبات والعقود مبدأ الحريّة التعاقديّة في المادة /166/ منه. فالمتعاقدين يمكنهم الاتفاق على ما يشاؤون ويريدون ويجوز لهم تضمين عقودهم أيّة بنود لتنظيم العلاقة فيما بينهم شرط عدم مخالفة النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونيّة التي لها صفة إلزاميّة. وأنّ العقد المبرم بينهم هو ملزم لكلّ منهم كونهم وقّعوا عليه وارتضوا أحكامه بكلّ حريّة وإرادة واعية، وهذا ما نصّت عليه المادة /221/ ق.م.ع. التي كرّست مبدأ إلزاميّة العقد، فالعقد له قوّة القانون بين أطرافه. كما وأنّ المشرّع أورد في الفصل الثاني من الباب الأوّل من الكتاب الخامس من قانون الموجبات والعقود، وتحديداً عندما نظّم مسألة سقوط الموجبات بالإيفاء أنّه: "يجب إيفاء الشيء المستحقّ نفسه" وفقاً لما نصّت عليه المادة /299/ ق.م.ع.، كما وأنّ المادة /249/ من القانون عينه تنصّ على أنّه: "يجب على قدر المستطاع أن توفى الموجبات عيناً إذ أنّ للدائن حقّاً مكتسباً في استيفاء موضوع الموجب بالذات". وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ القانون اللبناني أجاز تسديد بدلات الإيجار بالعملات الأجنبيّة وفي حالتنا بالدولار الأميركي إذا كان العقد ينصّ على الإيفاء بهذه العملة. وبالتالي، فإنّ تسديد بدلات الإيجار بحسب العملة المحددّة في العقد لا يمكن اعتباره شرطاً باطلاً أو ملغى ولا أثر له، بل هو اتفاق قائم ومنتج وله آثاره القانونيّة وكيانه عملاً بالمادتين /221/ و/299/ ق.م.ع. واستناداً إلى النظام الاقتصادي الحرّ المعمول به في لبنان.
وهنا، وفي هذا المجال، يجب القول بأنّ الآراء التي تُعارض هذا المنحى الثابت والمكرّس قانوناً وفقهاً واجتهاداً والتي استشهدت بالقوّة الإبرائيّة للعملة الوطنيّة ابتعدت كثيراً عن الموضوع ودخلت في تعليل غير موفّق ولا يستقيم في دعم ما دعت إليه باعتبار أنّ المشكلة بعيدة كلّ البعد عمّا يحاول هؤلاء إظهاره. فإنّ ما تضمّنته المادتين /7/ و/8/ من قانون النقد والتسليف حول القوّة الإبرائيّة لليرة اللبنانيّة أمر ثابت ومسلّم به، وهذين النصّين يتعلّقان بالنظام العام الحمائي للعملة الوطنيّة وهذا سبب وجود المواد التي تُعاقب من يمتنع عن قبول الليرة اللبنانيّة، فالمادة /192/ من قانون النقد والتسليف تنصّ على أنّه: "تطبّق على من يمتنع عن قبول العملة اللبنانيّة بالشروط المحدّدة في المادتين /7/ و/8/ العقوبات المنصوص عليها بالمادة /319/ من قانون العقوبات"، التي تُعاقب على هذا الجرم "بالحبس من ستّة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من خمسمائة ألف ليرة إلى مليوني ليرة. ويمكن فضلاً عن ذلك أن يُقضى بنشر الحكم" باعتبار أنّ هذا الجرم يؤدّي إلى "زعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة الماليّة العامة" وهذا النصّ يقع تحت عنوان "في النيل من مكانة الدولة الماليّة"، كما وأحكام المادة /767/ من القانون عينه التي تجرّم من يأبى قبول العملة الوطنيّة... وجميع هذه النصوص استندت إليها آراء البعض للزعم بعدم جواز تسديد بدلات الإيجار بغير العملة الوطنيّة حتّى ولو كان العقد ينصّ صراحةً على تحديد هذه البدلات بالدولار الأميركي. إلاّ أنّ هؤلاء حادوا عن الواقع الحقيقي لهذه الإشكاليّة وحادوا عن مبادئ التفسير القانوني السليم باعتبار أنّ الموضوع ليس مسألة عدم قبول الليرة اللبنانيّة أو رفض الإيفاء بها، إنّما هو بكلّ بساطة يتمحور حول أيّ سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي يجب الإيفاء على أساسه خصوصاً مع تعدّد أسعار الصرف.
- سعر الصرف الواجب اتباعه لأجل تسديد بدلات الإيجار:
بتبيّن ممّا تمّ ذكره أعلاه أنّ إبرام عقد الإيجار بعملة غير لبنانيّة هو أمر مقبول قانوناً تبعاً لطبيعة الاقتصاد اللبناني الحرّ ولما ورد في النصوص التشريعيّة. كما وأنّ تسديد البدلات بالعملة الأجنبيّة هو أمر مقبول أيضاً من الناحية القانونيّة لا بلّ أنّ المدين ملزم بتسديد موجباته (وهنا بدلات الإيجار) بالدولار الأميركي في حال كان العقد قد حدّد هذه البدلات بهذه العملة عملاً بمبدأ إلزاميّة العقد وارتضاء الفرقاء واتفاقهم الواضح والصريح في متنه. أمّا لجهة أمكانيّة التسديد بالعملة اللبنانيّة هو أيضاً يُبرئ الذمّة شرط أن يتمّ وفقاً لسعر الصرف الفعلي المتداول به في السوق الحرّة وقت الدفع. باعتبار أنّ الأوراق النقديّة لا قيمة لها لذاتها إنّما تكمن قيمتها في قوّتها الشرائيّة وقدرتها على إشباع حقّ الدائن في استيفاء دينه إذ أنّ للدائن حقّاً مكتسباً باستيفاء موضوع الموجب بالذات عملاً بأحكام المادتين /249/ و/299/ ق.م.ع.، والذي يؤيّد هذا الرأي أمور عدّة:
- عدم صلاحيّة مصرف لبنان لتحديد سعر لليرة اللبنانيّة مقابل العملات الأجنبيّة، وبالتالي عدم وجود "سعر رسمي" لصرف الدولار الأميركي: انطلاقاً من أحكام قانون النقد والتسليف الذي أنشأ المصرف المركزي وحدّد صلاحيّاته على سبيل الحصر في القسم السادس منه (المواد /70/ إلى /79/). إذ يتبيّن أنّه بعد التمحيص بصلاحيّات المصرف لا نجد أيّ اختصاص له في هذا المجال. وأنّه من المعلوم قانوناً أنّ لا اختصاص بدون نصّ قانونيّ صريح والدليل على ذلك هو الفقرة الأخيرة من المادة /70/ التي نصّت على أنّه: "يُمارس المصرف لهذه الغاية الصلاحيات المعطاة له بموجب هذا القانون"، أيّ صلاحيّاته المبيّنة في قانون النقد والتسليف. فمهمّة مصرف لبنان تنحصر بالأمور الآتية: إصدار النقد، والمحافظة على سلامته، والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي، والمحافظة على سلامة اوضاع النظام المصرفي، وتطوير السوق النقدية والمالية (المادة /70/). ويتعاون المصرف المركزي مع الحكومة فيقدّم لها كل مشورة تتعلّق بالسياسة الماليّة والاقتصاديّة بغية تأمين الانسجام الأوفر بين مهمته واهداف الحكومة (المادة /71/)، ويقترح عليها التدابير التي يرى أنّ من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات وحركة الاسعار والماليّة العامة وعلى النمو الاقتصادي بصورة عامة ويُطلعها على الامور التي يعتبرها مضرّة بالاقتصاد وبالنقد، ويؤمّن علاقات الحكومة بالمؤسسات الماليّة الدوليّة، وتستشيره في القضايا المتعلّقة بالنقد وتدعو حاكم المصرف للاشتراك في مذكراتها حول هذه القضايا (المادة /72/)... ويستعمل المصرف الوسائل التي يرى أنّ من شأنها تأمين ثبات القطع ومن أجل ذلك يمكنه خاصةً أن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير الماليّة مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبيّة (المادة /75/). وبالتالي، يكون تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع عبر شراء أو بيع العملات الأجنبيّة لأجل تأمين ثبات هذا السوق وبالتالي سلامة النقد الوطني لا عن طريق تحديد سعر الصرف في سوق القطع. فيكون ليس المرجع الصالح والمختصّ لتحديد سعر صرف الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي.
- دخول مسألة تحديد سعر الصرف ضمن الإطار التشريعي لا التنظيمي: يتبيّن لنا جليّاً من خلال نصوص قانون النقد والتسليف وخصوصاً المواد /2/ و /114/ و/229/ أنّهما تنصّان على "السعر القانوني لليرة". فنصّت المادة /2/ أنّه: "يُحدّد القانون قيمة الليرة اللبنانيّة بالذهب الخالص"، والمادة /114/ على الآتي: "تقيّد موجودات المصرف من ذهب وعملات أجنبيّة في محاسبته بما يوازي قيمتها بالسعر القانوني لليرة اللبنانيّة". والمادة /229/ تحدّثت عن تثبيت سعر الليرة بموجب قانون وفقا للمادة الثانية، واعتمدت لليرة اللبنانيّة بالنسبة للدولار الأميركي سعراً محدّداً بـ0,888671 غرام من الذهب الخالص كسعر قطع حقيقي أقرب ما يكون من سعر السوق الحرّة يكون هو "السعر الانتقالي القانوني" لليرة اللبنانية. يُستفاد من هذه المواد أنّ سعر صرف العملة الوطنيّة مقابل العملات الأجنبيّة يحدّد بموجب قانون ويجب أن يكون حقيقيّاً وأقرب ما يكون من سعر السوق الحرّة. وبالتالي يخرج ذلك عن الصلاحيّات التنظيميّة لمصرف لبنان ليدخل ضمن صلاحيّات السلطة التشريعيّة في إقرار القوانين. وفي حال عدم وجود قانون يحدّد سعر الصرف يتمّ الركون إلى قاعدة العرض والطلب المعمول به في السوق الحرّة لدى الصرّافين الشرعيّين.
وبالتالي فإنّ لبنان لا يعترف قانوناً بسعر رسمي لتداول العملات الأجنبيّة، فلا وجود لما اصطُلح على تسميته "سعر صرف رسمي محدّد من قبل مصرف لبنان" إذ أنّ هذا التعبير هو تعبير اصطلاحي فعلي لا قانوني ولا ينسجم مع النصوص القانونيّة المرعيّة الإجراء. فسعر صرف العملات الاجنبيّة يحدّد وفقاّ للقوة الشرائيّة التي يحكمها العرض والطلب الفعلي في السوق المحلي.
لهذه الأسباب يجب اعتماد سعر الصرف الحقيقي والواقعي لليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي لأجل تسديد بدلات الإيجار وإلاّ اعتماد السعر المحدّد على منصّة "صيرفة":
انطلاقاً ممّا ذكرناه أعلاه يجب اعتماد السعر الحقيقي والواقعي لليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي لتسديد بدلات الإيجار في العقود المحدّدة بالعملة الخضراء لأنّ هذا هو السعر الفعلي وهو المتداول فيه في السوق الموازية لأنّه يُعبّر تعبيراً حقيقيّاً عن القوّة الشرائيّة، والدليل هو أنّ جميع السلع الغذائيّة والطبيّة والاستشفائيّة وغيرها من الخدمات لاسيّما الأساسيّة منها تُحتسب على أساسه. وهنا قد يقول قائل بأنّ هذه السوق هي "سوق سوداء" لا يمكن الركون إليها كون عمليّاتها بمجملها تقوم على مضاربات غير مشروعة ولا رقابة عليها... وهذا الأمر فيه شيء من الصحّة باعتبار أنّ هذه السوق ليست مستقرّة ولا تخضع لرقابة رسميّة عليها وبالتالي هي متفلّتة من القيود. ولأجل ذلك أنشأ مصرف لبنان منصّة "صيرفة" والتي أصبحت عمليّاتها تشمل المصارف والتجّار والمواطنين على حدّ سواء وأصبح لها نشرة يوميّة تبيّن مجموع عمليّات القطع المجراة عليها وتحدّد سعر وسطي للدولار الأميركي. وهي أقرب ما يكون إلى السعر من سعر السوق الحرّة، وتخضع جميع عمليّاتها إلى رقابة صارمة من قبل المراجع المختصّة لاسيّما من قبل مصرف لبنان. ومؤخّراً، وبعد إقرار الموازنة العامة للعام 2022 صدر عن وزير الماليّة عدّة قرارات قضت باحتساب الضرائب والرسوم كما والتخمينات المحدّدة بالدولار الأميركي على أساس منصّة صيرفة. كما وأنّ القضاء اللبناني أقرّ بوجوب اعتماد هذه المنصّة لكي تُحتسب على أساسها الديون المحرّرة بالدولار الأميركي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ ما يُحكم به على أساس سعر الصرف الذي كان محدّداً بـ1,507/ل.ل. هي الديون الناتجة عن علاقات المصارف التجاريّة بعملائها حصراً باعتبار أنّ مصرف لبنان الذي من صلاحيّاته إدارة القطاع المصرفي هو من حدّد هذا السعر لاحتساب الدولار على أساسه في تعاملاته مع المصارف في تعاميم عديدة صادرة عنه ضمن اخصاصه التنظيمي لهذا القطاع.
4- المبادئ والأحكام التي يجب أن ترعى تنفيذ عقد الإيجار لجهة تسديد البدلات عند تدنّي قيمة النقد الوطني، والمبادئ التي تطبّق في حال عدم مراعاة ما ذكرناه أعلاه: بدايةً، وانطلاقاً من الأحكام التي ترعى العقود بشكل عام، ومن الأحكام الخاصة بعقد الإيجار التي تضمّنها "الكتاب الرابع" من القسم الثاني من قانون الموجبات والعقود ومن ما آل إليه الفقه والاجتهاد، يظهر لنا بأنّ أهمّ خصائص عقد الإيجار هي أنّه:
- عقد رضائي contrat consensual، بمفهوم المادتين /171/ و/172/ ق.م.ع. والتي يكون رضى الفريقين وتوافقهما على شروط العقد من الأركان الأساسيّة للعقد، بمعنى أن "تجري المناقشة والمساومة في شروطه وتوضع بحرية بين المتعاقدين".
- عقد ذو عوض contrat à titre onéreux، بمعنى أنّه ليس بالمجّان (كالهبة) بمفهوم المادة /169/ ق.م.ع.، أي "الذي يوضع لمصلحة جميع المتعاقدين فينالون منه منافع تعدّ متعادلة على وجه محسوس". وهذا يُحيلنا إلى تعريف عقد الإيجار الذي وضعته المادة /533/ ق.م.ع. والتي يُستفاد منها أنّ البدل هو ركن جوهري من أركان العقد.
- عقد متبادل contrat synallagmatique، بمفهوم الفقرة الثانية من المادة /168/ ق.م.ع. التي تعرّفه على أنّه "الذي يكون فيه كل فريق ملتزماً تجاه الآخر على وجه التبادل بمقتضى الاتفاق المعقود بينهما".
- عقد مؤقّت contrat à titre temporaire، بعكس عقد البيع الذي ينقل ملكيّة الشيء إلى المشتري بشكل دائم، فإنّ عقد الإيجار ينقل فيه المؤجّر الانتفاع للمستأجر لفترة زمنيّة معيّنة كما ورد في تعريفه في المادة /533/ ق.م.ع.
- عقد ينفّذ بصورة متتابعة contrat à exécution successive، أيّ أنّ تنفيذه يمتدّ لفترة زمنيّة محدّدة بعكس العقود ذات التنفيذ الآني والفوري contrat instantané (كعقد البيع). وهذا أيضاً يتماشى مع تعريف عقد الإيجار (المادة /533/ ق.م.ع.) التي كرّست المدّة كعنصر وركن أساسي من العقد.
استناداً لخصائص عقد الإيجار المذكورة أعلاه يمكننا تبيان المبادئ والأحكام التي يجب أن ترعى تنفيذ عقد الإيجار لاسيّما عند تسديد البدلات عند تدنّي قيمة النقد الوطني، وهي:
- مبدأ الحريّة التعاقديّة: الذي أقرّه المشرّع في المادة /166/ ق.م.ع.، ففريقي التعاقد يمكنهما الاتفاق على ما يشاؤون ويريدون شرط عدم مخالفة النظام العام والآداب العامة والأحكام الإلزاميّة للقانون. فاتفاق المالك والمستأجر على تسديد البدلات بالدولار الأميركي يخضع لإرادة الطرفين فلا يمكن للمستأجر تغيير عملة العقد بإرادته المنفردة.
- مبدأ إلزاميّة العقد: المحدّد في الفقرة الأولى من المادة /221/ ق.م.ع.، إذ أنّ ما اتفق عليه فريقيّ العقد يبقى ملزماً لهما. وبالتالي فإنّ الاتفاق على تسديد بدلات الإيجار بالدولار الأميركي ملزم للمستأجر الذي ارتضاه بكامل وعيه وإرادته وعليه التقيّد بأحكام العقد، فإمّا أن يدفع البدل بالدولار الأميركي نقداً أو يدفعه بالليرة اللبنانيّة وفقاً لسعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق الحرّة أو على أساس سعر منصّة صيرفة، وليس على أساس السعر الوهمي وغير الواقعي.
- مبدأ حسن النيّة في تنفيذ العقود: وقد كرّسته الفقرة الثانية من المادة /221/ ق.م.ع.، فتسديد البدلات يجب أن لا يكون بسوء نيّة أي بنيّة الإضرار بالمتعاقد الآخر (المالك) وإلحقاق الخسائر به عن طريق تسديد مبلغ أقلّ من المتوجّب أو لديه قدرة شرائيّة أدنى من البدل كما هو محدّد ومذكور في عقد الإيجار. وبالتالي فإنّ تسديد البدلات يجب أن يكون بحسن نيّة بمعنى أنّ المستأجر يجب أن يسدّد البدل كما هو بالعملة الأجنبيّة أو بما يوازيه بالعملة الوطنيّة على أساس سعر صرف حقيقي وفعلي لا وهمي وهو السعر في السوق الحرّة أو على أساس منصّة صيرفة الذي هو أقرب ما يكون لسعر الصرف في السوق الحرّة.
- مبدأ التوازن التعاقدي: انطلاقاً من كونه عقداً رضائيّاً ومتبادلاً وذو عوض، يقوم عقد الإيجار على التوازن التعاقدي أيّ أنّ الموجبات فيه يجب أن تكون متكافئة بين المتعاقدين دون أن يكون لأيّ طرف أفضليّة أو امتياز على الطرف الآخر، وهذا ما نصّت عليه المادة /169/ باعتبار أنّه يوضع لمصلحة جميع المتعاقدين فينالون منه منافع تعدّ متعادلة على وجه محسوس. وهنا، وتبعاً لذلك، نُسارع للقول أنّ البدل في عقد الإيجار يجب أن يكون جديّاً وحقيقيّاً sérieux et réel ولا يمكن أن يكون تافهاً dérisoire أو زهيداً. والجديّة هنا تعني أن يكون هنالك توازناً بين البدل وبين الانتفاع والكلام بعكس ذلك يعني فقدان ركن من أركان العقد وبالتالي يُعتبر باطلاً بطلاناً مطلقاً. وأيضاً يمكننا الحديث في هذا المجال عن نظريّة الغبن Lésion، الذي عرّفته المادة /213/ ق.م.ع. على أنّه: "التفاوت وانتفاء التوازن بين الموجبات التي توضع لمصلحة فريق، والموجبات التي تفرض على الفريق الآخر في العقود ذات العوض". وانطلاقاً من هذه النظريّة، فإنّ تسديد المستأجر بدلات الإيجار على أساس سعر صرف أقلّ من السعر المعمول به في السوق الحرّة أو أقلّه على أساس سعر منصّة صيرفة التي تُعتبر أقرب ما يكون إلى السعر في السوق الحرّة، يكون غبناً بحقّ المالك وانتهاكاً لتوازن الموجبات في العقد. ولنأخذ مثالاً حسابيّاً وعمليّاً على ذلك: إذا كان بدل الإيجار الشهري محدّداً في العقد بمبلغ /500/$ (خمسماية دولار أميركي). فإذا دفعه المستأجر على أساس سعر الصرف الوهمي وغير الصحيح (1,500/ل.ل.) أي بمبلغ وقدره /750,000/ل.ل. (سبعماية وخمسون ألف ليرة) ما يُعادل حوالي /15/$ (خسمة عشر دولار أميركي)، يكون قد سدّد فقط ما نسبته 3,125% من البدل المتّفق عليه في العقد، وبالتالي يكون البدل فقد ما نسبته 96,875% ما يُعتبر غبناً فاحشاً وخارجاً عن المألوف بالمفهوم القانوني. فيكون عقد الإيجار في هذه الحال قابلاً للإبطال لعلّة الغبن ولانتفاء ركن البدل الجدّي. وهذا الأمر يمكّن المستأجر (المدين بدفع البدل) بالتحلّل من موجباته على حساب المالك الذي يُصبح تنفيذ العقد مرهقاً له وهذا يعني إعطاء متعاقد أفضليّة على متعاقد آخر وهذا يمسّ بجوهر التوازن العقدي الواجب توافره.
- مبدأ المنفعة الاقتصاديّة في العقود: العقد هو أداة قانونيّة تهدف إلى تنظيم جوانب الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة على اختلاف أنواعها فهو يجمع بين مشيئتين أو أكثر وبالتالي تكون الإرادة فيه إلى محاولة التوفيق بين عدّة مصالح عادةً ما تكون متضاربة ومتناقضة على أسس من التوازن بين الموجبات، فيكون هذا العقد إطاراً تنظيميّاً لهذه العلاقة التعاقديّة. والعقد أيضاً ليس إطاراً قانونيّاً فحسب، بل هو ايضاً وسيلة اقتصاديّة لخدمة الأشخاص فهو المجال والميدان الذي يضمن الوصول إلى الغاية التي يرمي لها أطرافه من خلال التعاقد والمتمثلة في تحقيق الغاية الاقتصاديّة. وانطلاقاً من ذلك، يُعتبر عقد الإيجار أداة قانونيّة واقتصاديّة تحدّد العلاقة بين المالك والمستأجر فالأوّل ينقل الانتفاع بالمال المنقول أو غير المنقول للثاني الذي عليه تسديد البدل مقابل حقّ الانتفاع. فالغاية الاقتصاديّة للمالك هي استيفاء وقبض بدلات الإيجار. وهذه المنفعة الاقتصاديّة يجب أن تكون على قاعدة التكافؤ في الالتزامات والموجبات بين قيمة الانتفاع ومقدار البدل الذي يجب أن يكون جدياً وحقيقيّاً كما سبق وذكرنا. وفي هذا المجال، يمكننا الحديث أيضاً عن سبب العقد وسبب الموجب وفقاً لما نصّت عليه المادتين /195/ و/200/ ق.م.ع.، فسبب الموجب هو "الدافع الذي يحمل عليه مباشرة على وجه لا يتغير وهو يُعدّ جزءا غير منفصل عن العقد كالموجب المقابل في العقود المتبادلة" (المادة /195/ ق.م.ع.)، وسبب العقد هو "الدافع الشخصي الذي حمل الفريق العاقد على انشاء العقد وهو لا يعدّ جزءاً غير منفصل عن العقد بل يختلف في كل نوع من العقود وإن تكن من فئة واحدة" (المادة /200/ ق.م.ع.). وقد أكّد المشرّع في المادة /196/ ق.م.ع. على أنّ الموجب الذي ليس له سبب يُعدّ كأنّه لم يكن ويؤدّي الى اعتبار العقد الذي يعود إليه غير موجود أيضاً. وبالتالي، فإذا أردنا تطبيق هذه الأحكام، يتَضح أنّ المنفعة الاقتصاديّة للعقد والمرتبطة بنظريّة السبب لها أهميّة كبيرة في العقود عامةً وفي عقد الإيجار بشكل خاص، إذ أنّ تسديد البدل هو الموجب المقابل للانتفاع وهنا نقصد تسديد البدل الجدّي والحقيقي لا التافه والزهيد.
- مبدأ الإثراء بدون سبب مشروع/الإثراء على حساب الغير:
وقد نصّت على هذا المبدأ المادة /140/ ق.م.ع.، وقد ورد فيها ما حرفيّته: "من يجتني بلا سبب مشروع كسباً يضرّ بالغير يلزمه الردّ". وقد حدّدت المادة /141/ شروط تحقّق موجب الردّ، وهذه الشروط هي:
-
- أن يكون قد حصل الكاسب المزعوم على كسب سواءً أكان هذا الكسب مباشراً أم غير مباشر، مادياً أم أدبيّاً.
- أن يكون المكتسب منه قد خسر مقابل هذا الكسب في ملك أو مال تفرّغ عنه أو خدمة قام بها.
- أن يكون الكسب المتحقّق والخسارة المقابلة مجرّدين عن سبب قانوني يرتكزان عليه.
- أن لا يكون للمكتسب منه، كي ينال مطلوبه، سوى حقّ المداعاة المبني على حصول الكسب، وهذا الحقّ له صفة ثانويّة بالنسبة إلى سائر الوسائل القانونيّة.
وفي حالتنا الحاضرة، إذا سدّد المستأجر بدلات الإيجار على سعر الصرف الوهمي وغير الحقيقي يكون قد أثرى على حساب المالك بدون سبب مشروع، وهذا الإثراء يتمثّل بالزيادة في الجانب الإيجابي لذمة المستأجر الماليّة بغير حقّ، ويُقابل هذا الإثراء افتقار في الذمّة الماليّة للمالك. وهذا الإثراء والافتقار يكون بالفارق بين المبلغ المدفوع من المستأجر جرّاء احتسابه على أساس سعر الصرف الوهمي وغير الحقيقي وذلك الذي يتمّ احتسابه على أساس سعر الصرف في السوق الحرّة أو وفق منصّة صيرفة. وهنا يُلزم المستأجر بموجب الردّ أيّ التعويض الذي يوازي الخسارة اللاحقة، خصوصاً وأنّ المستأجر يُعتبر في هذه الحال سيء النيّة كونه يعلم تمام العلم بأنّ سعر الصرف 1,500/ل.ل. هو سعر غير حقيقي باعتبار أنّ جميع الخدمات والسلع لم تعُد تُحتسب على أساسه حتّى الضرائب والرسوم.
- نظريّة التعسّف باستعمال الحق/إساءة استعمال الحقّ:
يُعدّ التعسّف في استعمال الحقّ في ضمن نطاق المسؤوليّة التقصيريّة إذ يكون المتعسّف قد ارتكب خطأ في استعمال حقّه ويحدث هذا طالما انحرف عن سلوك الرجل العادي. والمسؤوليّة التقصيريّة تحدّثت عنها الفقرة الأولى من المادة /122/ ق.م.ع. التي نصّت على أنّه: "كل عمل من أحد الناس ينجم عنه ضرر غير مشروع بمصلحة الغير يُجبر فاعله إذا كان مميّزاً، على التعويض". وفي عقد الإيجار فإنّ تسديد البدل بمبلغ يقلّ عن ذلك المتّفق عليه في العقد أو بأقلّ من القدرة الشرائيّة لهذا المبلغ يُعتبر تعسّفاً.
- مبادئ العدالة والإنصاف: والتي ذكرتها المادة /221/ ق.م.ع. بأنّ العقود يجب أن تنفّذ وفقاً للإنصاف. والإنصاف هنا يعني العدالة والاستقامة في تنفيذ العقود وفق منظومة الأخلاق والضمير والذي يُجافي الظلم والإجحاف والحيف والضيم والتعسّف. فالمستأجر الذي يدفع للمالك بدلات الإيجار على أساس سعر الصرف الوهمي يكون قد أخلّ بمبادئ العدالة والإنصاف.
5- الحلول المقترحة للخروج من هذه الإشكاليّات:
لا بدّ من القول بأنّ مبدأ حسن النيّة يفترض أن لا يُلزم المتعاقد بتنفيذ موجباته إذا كان الأساس التعاقدي غير موجود أو تغيّر بشكل كبير وبالغ بسبب تبدّل الظروف في وقت لاحق لتنظيم العقد وهذا ما يبرّر طلب إبطال هذا العقد أو فسخه في حال لم يكُن التصحيح وإعادة التكييف ممكنة باعتبار أنّ الأساس التعاقدي هو مجموعة الأحداث التي يكون وجودها واستمرارها مفترضاً وقت إبرام العقد في ضوء محتواه وهدفه ومدلوله الاقتصادي وهي الأحداث التي وحدها تسمح بأن يكون للعقد من معنى وبأن يكون "وسيلة تنظيميّة تتكيّف مع قواعد نظام الأمّة" كما أشار الأستاذ Larenz[1].
ولكي نُبدي الحلول المناسبة لهذه المشكلة نقول بأنّه عند تدنّي قيمة العملة واختلال التوازن التعاقدي نتيجةً لذلك يجب إعادة التوازن للعلاقة التعاقديّة إلى حدّ معقول وإبقاء الالتزامات متعادلة أو قريبة إلى التعادل ما يتماشى مع روح العدالة والإنصاف والمساواة وحسن النيّة.
وإعادة التوازن إلى العقد لا تتمّ بوضع القيود على المالك وعلى حقّه بالملكيّة rent control أو بتدخّل السلطة التشريعيّة في كلّ مرّة لتحديد العلاقة بين المالك والمستأجر عن طريق إقرار قوانين إيجارات استثنائيّة متمادية التعرّض لحريّة التعاقد والتي برهنت الأزمنة عن عقمها وعدم جدواها فبدلاً من أن تطيّب العلاقة بين فريقي العقد أدّت إلى مزيد من الشرخ بينهما ناهيكم عن الأحقاد والخلافات الشخصيّة الناجمة عن النزاعات المكلفة والطويلة الأمد التي أثقلت المحاكم. وهذا السلوك نبذه الفقه والاجتهاد كما لفظته التشريعات العربيّة والغربيّة خصوصاً التشريع الفرنسي منذ زمن بعيد.
ويكمن الحلّ لهذه "الإشكاليّات" عبر تعديل العقد باعتبار أنّ ذلك يحقّق الاستقرار العقدي بين طرفيه. فيجب بدايةً أن يتمّ التفاوض بين المالك والمستأجر على إعادة النظر بالعقد وتعديله خصوصاً لناحية البدل ليؤمّن من جهة منفعة ماديّة للمالك تتماشى مع القدرة الشرائيّة لهذا البدل، ومن جهة ثانية يتماشى مع الانتفاع الذي يستفيد منه المستأجر. أمّا في حال فشلت المفاوضات الحبيّة يجب اللجوء إلى القضاء الذي عليه درس الموضوع والموازنة بين مصلحة الطرفين والحكم بتعديل العقد بشكل يُعيد التوازن المفقود ورفع الجور والظلم اللاحق بالطرف الذي تضرّر بشكل كبير بفعل هبوط قيمة العملة (وهنا هو المالك)، أو الحكم بإنهاء العقد أي فسخه خصوصاً وأنّ مسألة انهيار الليرة مقابل الدولار بالشكل الذي حصل ولا يزال يحصل فيه يتخطّى المخاطر العاديّة aléa normal وأضحى التباين الحاصل في الموجبات بين المالك والمستأجر كبيراً وغير عاديّ ويخرج عن المألوف ومن شأنه أن يزعزع أسس العقد التي لحظها الفريقان عند التعاقد وبينا عليها تعاقدهما. وأيضاً، لأنّه وفي كلّ عقد يُفترض وجود بند ضمني يفترض تعديله (أو إنهاؤه) في حال تغيّرت الظروف بشكل شاذ، وذلك حتى وفي ظلّ عدم وجود نصّ قانونيّ صريح بهذا الشأن باعتبار أنّ لا يجوز للقاضي تحت طائلة اعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق أن يمتنع عن الحكم بحجّة غموض النص أو انتقائه أو أن يتأخّر بغير سبب عن إصدار الحكم، وعند غموض النص يفسرّه القاضي بالمعنى الذي يُحدث معه أثراً يكون متوافقاً مع الغرض منه ومؤمنّاً التناسق بينه وبين النصوص الأخرى، وعند انتفاء النصّ يعتمد القاضي المبادئ العامة والعرف والإنصاف وذلك سنداً لأحكام المادة /4/ من قانون أصول المحاكمات المدنيّة، فالاجتهاد هو مصدر من مصادر القاعدة القانونيّة. وبالتالي وفي حالتنا الحاضرة يجب اعتماد نظريّة الظروف الطارئة التي تفترض تعديل الالتزام إلى الحدّ المقبول عند حصول ظرف طارئ يجعل تنفيذ العقد مرهقاً لأحد المتعاقدين.
في الدول العربيّة، اعتمدت نظريّة الظروف الطارئة في القانون المصري[2]، والسوري[3]، والعراقي[4]، والليبي[5]، والكويتي[6]، والأردني[7]، والإماراتي[8]. أمّا في فرنسا، فقد أجرى المشرّع تعديلاً جذريّاً للقانون المدني في العام 2016 حيث أدخل العديد من الإصلاحات على نظريّة الموجبات وقانون العقود[9]، فأدخل نظريّة الظروف الطارئة أو الظروف الاستثنائيّة إلى صلب القانون المدني بعدما كان معمولاً بها في القانون الإداري مع العلم بأنّ الاجتهاد الفرنسي لاسيّما اجتهاد محكمة التمييز كان قد كرّس هذه النظريّة في العديد من القرارات المبدئيّة إلى أن أدخلها المشرّع في صلب القانون المدني.
أمّا في لبنان، وللأسف، لا يوجد في قانون الموجبات والعقود اللبناني نصّاً صريحاً يوجب إعادة النظر بالعقد في حال تبدّل الظروف، ولا نزال نعاني من قصوراً تشريعيّاً عظيماً في هذا المجال وحتّى على الصعيد القضائي، فنظريّة الظروف الطارئة مطبّقة على نحو خجول من بعض المحاكم مع أنّها، وخلال الثلاث سنوات الماضية، طُرحت بشكل كبير على بساط البحث القانوني خصوصاً بعد تفشّي فيروس كورونا والتعبئة العامة والإقفال الذي حصلا بسببه أو بفعل الأزمة الاقتصاديّة، إذ تناقش بها الكثير من رجال الفقه والقانون، ولم يشعر المواطن اللبناني بأهمّيتها في أيّام البحبوحة والاستقرار وثبات سعر صرف العملة الوطنيّة. ولكن في وقتنا الحاضر باتت حاجة ملحّة وضروريّة خصوصاً في مسألة عقد الإيجار الذي يمتدّ التنفيذ فيه على مدّة من الزمن مع ما قد يحصل خلال مدّة التنفيذ من ظروف قد تجعل من هذا التنفيذ مرهقاً لأحد الفريقين (وفي حالتنا الحاضرة المالك) ما يعني تغيّر جوهري وكبير في الأساس التعاقدي الذي قام عليه العقد أصلاً باعتبار أنّ فريقي العقد لا يمكنهم الإحاطة بما يزيد عن المخاطر العاديّة عند إبرام العقد، كما لا يمكن عملاً بمبادئ العدل والإنصاف أن يبقى العقد سارياً عند وجود إجحاف أو ظلم بحقّ أحد الفريقين ما يخلّ بالتوازن التعاقدي ولا يمكن أن يُصبح العقد أداة بيد أحد فريقيه لأجل الإثراء على حساب الغير والتفلّت من الموجبات مقابل إفقار الفريق الآخر وإلحاق الأضرار به ماديّاً ومعنويّاً خصوصاً وأنّ هذا العقد كان من المفترض أن يؤمّن المنفعة لهذا المتعاقد. من هنا يجب أن يحصل تدخّلاً تشريعيّاً يُعيد النظر بقانون العقود وبوجود إدخال بعض الإصلاحات عليه وأبرزها وإدخال نظريّة الظروف الطارئة أو الاستثنائيّة في صلب قانون الموجبات والعقود على غرار ما فعل المشرّع في الدول العربيّة وفي فرنسا وذلك حفاظاً على الحقوق من الضياع وصوناً للعدل والمساواة بين المتعاقدين والتوازن بين الحقوق والموجبات.
[1] La force obligatoire du contrat et les changements dans les circonstances, 1955 No. /535/
[2] الفقرة الثانية من المادة /147/ من القانون المدني المصري والتي تنصّ على أنّه: " ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائيّة عامة لم يكن في الوسع توقّعها وترتّب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقا للمدين بحيث يهددّه بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وسدّ الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول. ويقع باطلاً كل اتفاق على خالف ذلك."
[3] الفقرة الثانية من المادة /148/ من القانون المدني السوري والتي تنصّ على أنّه: "ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائيّة عامة لم يكن في الوسع توقّعها وترتّب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقا للمدين بحيث يهددّه بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وسدّ الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول. ويقع باطلاً كل اتفاق على خالف ذلك."
[4] الفقرة الثانية من المادة /146/ من القانون المدني العراقي والتي نصّت على أنّه: " على انه اذا طرأت حوادث استثنائيّة عامة لم يكن في الوسع توقّعھا وترتّب على حدوثھا أنّ تنفیذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحیلاً، صار مرھقاً للمدين بحیث يھدّده بخسارة فادحة جاز للمحكمة بعد الموازنة بین مصلحة الطرفین أن تنقص الالتزام المرھق الى الحدّ المعقول إن اقتضت العدالة ذلك، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك."
[5] الفقرة الثانية من المادة /147/ من القانون المدني الليبي والتي تنصّ على أنّه: " ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائيّة عامة لم یكن في الوسع توقّعها وترتّب على حدوثها أن تنفیذ الالتزام التعاقدي، وإن لم یصبح مستحیلاً، صار مرهقاً للمدین بحیث یهدّّده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بین مصلحة الطرفین أن یردّ الالتزام المرهق إلى الحدّ المعقول، ویقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك.
[6] المادة /198/ من القانون المدني الكويتي والتي تنصّ على أنّه: "إذا طرأت، بعد العقد وقبل تمام تنفيذه، ظروف استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها عند إبرامه، وترتّب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام الناشئ عنه، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين، بحيث يهدّده بخسارة فادحة، جاز للقاضي بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يردّ الالتزام المرهق إلى الحدّ المعقول٬ بأن يضيق من مداه أو يزيد في مقابله. ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك.
[7] المادة /205/ من القانون المدني الأردني التي تنصّ على أنّه: " اذا طرأت حوادث استثنائيّة عامة لم يكن في الوسع توقّعها وترتّب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدّده بخسارة فادحة جاز للمحكمة تبعا ً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تردّ الالتزام المرهق الى الحدّ المعقول إن اقتضت العدالة ذلك . ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك."
[8] المادة /249/ من قانون المعاملات المدنيّة الإماراتي والتي نصّت على أنّه: " إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقّعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدّده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يردّ الالتزام المرهق إلى الحدّ المعقول إن اقتضت العدالة ذلك ويقع باطل كل اتفاق على خلاف ذلك."
[9] المادة /1195/ من القانون المدني المعدّلة بموجب المرسوم تاريخ 10/2/2016 والذي جاء من ضمن الإصلاحات التي أدخلها ، والتي ورد فيها ما حرفيّته:
"Si un changement de circonstances imprévisible lors de la conclusion du contrat rend l'exécution excessivement onéreuse pour une partie qui n'avait pas accepté d'en assumer le risque, celle-ci peut demander une renégociation du contrat à son cocontractant. Elle continue à exécuter ses obligations durant la renégociation.
En cas de refus ou d'échec de la renégociation, les parties peuvent convenir de la résolution du contrat, à la date et aux conditions qu'elles déterminent, ou demander d'un commun accord au juge de procéder à son adaptation. A défaut d'accord dans un délai raisonnable, le juge peut, à la demande d'une partie, réviser le contrat ou y mettre fin, à la date et aux conditions qu'il fixe."
أيّ ما تعريبه: "إذا طرأت ظروف لم تكن متوقّعة عند إبرام العقد من شأنها أن تجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً بدرجة كبيرة للمتعاقد الذي لم يقبل تحمّل المخاطر، جاز له أن يطلب من المتعاقد الآخر إعادة التفاوض، على أن يستمر في تنفيذ التزاماته أثناء إعادة التفاوض. وفي حال رفض أو فشل إعادة التفاوض، فإنه يجوز للطرفين الاتفاق على فسخ العقد في الوقت وبالشروط التي يحددانها، أو أن يطلبا من القاضي تحديد مصير العقد. فإذا لم يتفق الطرفان خلال مدّة معقولة، جاز للقاضي، بناءً على طلب أحدهما مراجعة شروط العقد أو إنهاءه في الوقت وبالشروط التي يحددّها."