في 14 شباط 2005 حصل انفجار أمني وسياسي كبير في لبنان أدى الى استشهاد الرئيس رفيق الحريري وبعض من كان معه وبعض المتواجدين في مكان حصول الجريمة.
انشئت محكمة دولية خاصة بهذه الجريمة، فأصدرت الغرفة الابتدائية حكمها النهائي في 18 آب 2020، الذي نبدي بشأنه هذه الملاحظات المختصرة.
اولا: في محاكمة المتهمين الاربعة
ان قراءة الوقائع بصورة دقيقة من شأنها ان تؤدي بنا الى الاعتقاد بان ثمة قناعة لدى الغرفة بتجريم المتهمين، غير اننا نفاجىء بان المحكمة اكتفت بادانة أحدهم ( سليم عياش ) دون الاخرين بحجة عدم كفاية الدليل. فاذا كانت كل الدلائل التي اشارت اليها الغرفة الابتدائية في حكمها غير كافية، فما هي الدلائل المطلوبة ؟ ان الغرفة الابتدائية التي فندت الوقائع بصورة دقيقة وعلمية، واشارت في الوقائع المذكورة منها الى مسؤولية المتهمين الاربعة، ثم وبصورة مفاجئة عمدت الى تجريم احدهم دون الاخرين بحجة عدم كفاية الدليل، تكون قد افقدت حكمها الاساس القانوني اللازم فأتت الوقائع والادلة المعتمدة منها غير كافية لاسناد الحل الذي خرجت به والقاضي بتبرئة المتهمين الثلاثة وادانة احدهم فقط.
ان الادلة المستخرجة من حركة الاتصالات الهاتفية بين المتهمين ، هي ادلة مادية قاطعة ملزمة للمحكمة، فلا يصح لها ان تعتبرها ـ كما ذهبت اليه ـ غير كافية لتكوين قناعتها، لان الادلة المادية هي أدلة علمية، لا مجال للمحكمة ان تعهد الى تقديرها بل هي ملزمة بالاخذ بها لان العلم لا يخطىء فلا يصح للقاضي ان يقيّمه.
ناهيك عن قرينة الفرار، فالمتهمون الاربعة فارون من وجه العدالة الدولية، وان قرينة الفرار هي قرينة ادانة وليست قرينة تبرئة، فلا يصح اطلاقا ان تذهب المحكمة الى حد القول بانه لم يتسنى لها سماعهم لتتثبت من ارتكابهم الجريمة. بل اكثر من ذلك، ان قرينة الفرار يجب ان يترتب عليها ادانة المجرم الفار غيابيا والحكم عليه بالحد الاقصى من العقوبة ، طالما ان الحكم الغيابي يسقط بمجرد حضور المحكوم عليه غيابيا والاعتراض عليه.
يضاف الى كل ذلك ان النظام الاساسي للمحكمة اوجب الالتزام التام على الدولة المعنية باتاحة كل التدابير اللازمة بموجب قوانينها الوطنية لتحقيق جميع اشكال التعاون مع المحكمة. هذا التعاون الذي سناتي على الكلام عليه لاحقا كان منعدما سواء على مستوى التحقيق او على مستوى المحاكمة ، لان الاجراء المتمثل بحضور المتهمين الشخصي امام المحكمة كان ملطفا بالنص عن جواز اجراء المحاكمة في غيابهم، وفقا لما نص عنه نظام المحكمة. وفي ذلك ثغرة كبيرة في النظام المذكور اقتضتها ظروف وضع نظام المحكمة بالاتفاق مع الدولة اللبنانية التي كانت وما زالت لا تملك القدرة اللازمة لمسك زمام الامور. ولكن يبقى لهذا الجانب اهمية كبرى اذ للمحكمة ان تطلب من الدولة المعنية القبض على الشخص المشتبه به في الجريمة قيد التحقيق وتقديمه للمحكمة. وعلى الدولة ان تمثل لطلبات القاء القبض والتقديم وفقا للاجراءات المنصوص عنها في قوانينها الوطنية [1].
وتجدر الاشارة الى ان النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بلبنان، تفادى ذكر مصطلح " التسليم " extradition واستبدله بمصطلح " التقديم " remise وذلك للحيلولة دون امتناع الدول عن تنفيذ اوامر القبض ضد الاشخاص المشكوك فيهم بحجة ان التسليم يخضع لقواعد وشروط محددة في القانون الداخلي ، من شأنها ان تمنع التسليم متى كيفت الجريمة تكييفا يدخل في حالة المنع. ان عدم قيام الدولة اللبناية بتقديم المتهمين للمحاكمة بسبب ضعفها وعجزها المعروفين يزيد اهمية على قرينة الفرار، ويجعلها كافية بذاتها لادانة المتهمين غيابيا وليس العكس كما حصل في الحكم المشكو منه.
لقد الزم نظام المحكمة الاساسي الدولة اللبنانية بتقديم المعلومات ذات الصلة بالوقائع الجرمية بغية مساعدة المحكمة في الوصــــول الى الحقيقة . هذا الامــــر لم يحصل بتاتا، بل على العكس ـ ووفقا لما ورد في حكم المحكمة ذاتها ـ فان بعض الاجهزة الامنية اللبنانية اقدمت على محو آثار الجريمة ! سوى ان الادلة الناشئة عن " داتا الاتصالات " ، كانت بفضل الشهيد وسام عيد، الذي ذهب ضحية مهارته وتفانيه في سبيل واجبه المهني. الم يكن على الغرفة الابتدائية ان تأخذ بكل تلك القرائن مجتمعة لادانة المتهمين الاربعة، بدلا من ذكرها في حكمها وعدم البناء عليها؟
في حال عدم توافق الدولة اللبنانية مع المحكمة الدولية، يحق للمحكمة ان تصدر قرارا بذلك وان تحيله الى مجلس الامن الذي له بعد ذلك ان يصدر قرارا يذكر فيه ان الدولة اللبنانية اخلت بالتزاماتها الناشئة عن نظام المحكمة الاساسي، على ان يشتمل هذا القرار اما على تدابير غير ملزمة وفقا للفصل السادس من الميثاق واما على تدابير ملزمة وفقا للفصل السابع من الميثاق ذاته، فيستطيع المجلس اجبار الدولة اللبنانية غير المتعاونة مع المحكمة على التعاون معها. لم تقدم المحكمة على اتخاذ اجراء كهذا واتى حكمها فارغا من اي اشارة الى هذا التدبير. فقد اكتفت بالقول انها لم تتمكن من القاء القبض على المتهمين الاربعة وسوقهم الى المحاكمة، لتنتهي الى القول بان هذا الامر افقد المحكمة فرصة الحصول على دلائل اضافية، وان افتقار الملف اليها، أفقد المحكمة القناعة الكافية للادانة. لا يحق اطلاقا للمحكمة ان تستخرج هذه النتيجة طالما انها لم تمارس حقها في الضغط على الدولة اللبنانية لتسليمها المتهمين الاربعة. ان المحكمة وظّفت قرينة فرار المتهمين في سبيل براءتهم بدلا من توظيفها في سبيل إدانتهم، فقلبت في ذلك قواعد الاثبات رأسا على عقب. وهنا لا بد من الاشارة والتأكيد انه اذا كان طلب التسليم يخالف بعض الدساتير والقوانين الوطنية التي تمنع تسليم رعاياها الى هيئة أجنبية، الا ان هذا الامتناع لا يطبق عند تعلق الامر بمحكمة جنائية دولية، اذ تكون الدولة ملزمة بتسليم الاشخاص المشتبه في ارتكابهم جرائم دولية [2].
هناك حالات تبرر عدم تعاون الدولة مع مطلب المحكمة في تسليم المتهمين:
ـ تعلق طلب التعاون بتقديم وثائق او الكشف عن ادلة تتصل بأمن الدولة القومي، حيث تتخذ الدولة الخطوات اللازمة كلها بالتفاهم مع المحكمة لاجل التوصل الى حل مقبول، كعقد جلسة مغلقة او تعديل الطلب او توضيحه، او تقديم ملخص للطلب يضع جدولا للمعلومات المطلوبة، او البحث عن المعلومات من مصدر آخر.
ـ مخالفة الطلب لمبدأ قانوني اساسي قائم، يصار عندها الى تعديله حسب الاقتضاء اذا تعذر حل المسألة بعد المشاورات مع المحكمة.
ـ وجود التزام دولي سابق متعلق بحصانة الشخص الدبلوماسي او ملكية دولة ثالثة على انه يمكن في الحالة الاخيرة ان تتحقق المحكمة من تنازل الدولة الثالثة عن تلك الحصانة.
وفي كل هذه الاحوال، لا تحول هذه الاسباب دون طلب المدعي العام تنفيذ بعض الاجراءات للحفاظ على الادلة، لقد سعى النظام الاساسي للمحكمة الى اقامة توازن بين صلاحيات المحكمة من جهة والدولة اللبنانية من جهة أخرى. وقد اظهرت الدولة اللبنانية تلكؤا في التعاون، ما حال دون مثول المتهمين امام المحكمة. كما عمدت بعض الاجهزة الامنية الى بعثرة آثار الجريمة. هذا فضلا عن ان الدولة اللبنانية احجمت عن تزويد المحكمة باي معلومة مفيدة لجلاء الحقيقة.
ثانيا: في عدم تجريم الاحزاب والدول
أ ـ تحديد المسؤوليات
عندما وضع نظام المحكمة الدولية استثنى محاكمة الاحزاب والدول والجمعيات بصورة خاصة والكيانات المعنوية بصورة عامة ونص على وجوب الاقتصار على معاقبة الافراد.
قبل تفسير مضمون هذا الاستثناء على حقيقته، لا بد من القاء الضوء على الموضوع بصورة عامة.
هناك شكلان للمسؤولية الجنائية الدولية:
المسؤولية الفردية: وهي حين يرتكب الفرد الجريمة ضمن اختصاص المحكمة مباشرة سواء بشخصه او بالمشاركة مع آخرين في ان يوجه الامر بارتكابها او يحرض عليها او يتسبب بوقوعها بالمساعدة على وقوع الجريمة اوالتحريض عليها او بالاسهام في وقوعها بشكل آخر.
وهناك الى جانب المسؤولية الفردية مسؤولية القيادة التي تتوافر حين لا يفرض القائد او زعيم الحزب او رئيس الدولة سيطرته على عناصره في الوقت الذي يعرف او عليه ان يعرف بأن عناصره ترتكب او بصدد ارتكاب مثل هذه الجرائم. عندما لا يقوم بمنع وقوع هذه الجرائم او معاقبة الجناة على ما ارتكبوه[3]. وهذا ما دفع به المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عندما اصدر أمر القبض على الرئيس السوداني عمر البشير في 14 تموز 2008 متهما اياه بارتكاب جريمة الابادة الجماعية. وقد اضاف رئيس المحكمة الجنائية الدولية ان الرئيس السوداني سيمثل في نهاية المطاف للعدالة امام المحكمة الدولية في لاهاي. وقال ان الرئيس السوداني متهم ايضا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وهو ما ينطبق عليه تماما قانون روما [4]. والبشير باعتباره القائد الاعلى للقوات المسلحة السودانية لعب دورا قياديا محوريا ضمن الحملة العسكرية في دارفور. وفي تقرير المدعي العام مورنيو اوكاجو الى مجلس الامن في حزيران 2008 اعلن انه توصل الى ادلة لخطة اجرامية تستند الى تحرك جهاز الحكومة بالكامل، بما في ذلك القوات المسلحة والمخابرات والجهات الدبلوماسية الخاصة بالعلاقات العامة ونظام العدالة.
وتعود إحالة مجلس الامن الوضع الى المحكمة الجنائية الدولية الى ما خلصت اليه لجنة تقصي الحقائق الدولية التابعة للامم المتحدة عن دارفور. وهذا التقرير رفعته اللجنة الى الامانة العامة للامم المتحدة، وخلص الى ان حكومة السودان وميليشيا الجنجويد الموالية لها مسؤولة عن انتهاكات جسيمة للقانون الدولي وحقوق الانسان، وترقى الى جرائم بموجب القانون الدولي. واوصى التقرير باحالة الوضع الى المحكمة الجنائية الدولية. واعدت اللجنة قائمة بواحد وخمسين مشتبها به يجب اجراء تحقيقات إضافية معهم ومنهم مجموعة من كبار المسؤولين الحكوميين والقادة العسكريين. وتم تسليم القائمة الى الامين العام للامم المتحدة مصحوبا بتوصية باطلاع الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية عليها [5].
ان المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة قضائية مستقلة. والسودان ـ رغم انه ليس دولة طرف في نظام روما المنشىء للمحكمة ـ يخضع للاختصاص القضائي للمحكمة بموجب قرار مجلس الامن. وصفة البشير كرئيس للدولة لا تمنحه صفة الحصانة من المسؤولية الجنائية امام المحكمة الجنائية الدولية.
الى جانب أمر التوقيف الصادر ضد الرئيس البشير، اصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمري توقيف ضمن ملف دارفور . ففي 27 نيسان 2007 بحق وزير الدولة للشؤون الانسانية احمد هارون ، وزعيم ميليشيا الجنجويد علي كوشيب. كما طلب المدعي العام اصدار اوامر توقيف بحق ثلاثة من زعماء المتمردين على صلة بهجمات على عناصر حفظ السلام الدولية في هاسكانيتا خلال شهر تشرين الاول 2007.
اذا هناك ثلاثة انواع من المسؤوليات في الجرائم الدولية:
المسؤولية الفردية حيث يكون الفرد فيها مسؤولا عن افعاله الشخصية.
مسؤولية الدولة او الهيئات المعنوية بصورة عامة، مثل الاحزاب والجمعيات.
مسؤولية القائد واخلاله بواجباته .
فما هي المسؤولية المستثناة في نظام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بلبنان؟ وما هو النظام القانوني للاستثناء؟
ب ـ النظام القانوني للمسؤولية المستثناة:
ان نظام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بلبنان ، يستهدف ايضا الاشخاص ( دون الدول والاحزاب ) الذين تسببوا بشكل مباشر نتيجة لاخلالهم بواجباتهم ، في ارتكاب انتهاك جسيم. لا يعني ذلك انه لا يمكن اعتبارهم مسؤولين جنائيا. فالانتهاكات قد تنشأ عن التقصير في اداء عمل واجب الاداء. ويتصل الامر هنا بمشكلة القائد الذي لا يفعل شيئا لمنع احد مرؤوسيه من ارتكاب انتهاك للقانون الدولي الانساني. وتخضع مسؤولية القائد الى ثلاثة شروط:
- وجود قائد، اي شخص يتمتع بالسلطة على مرؤوس.
- علم القائد او كان يتعيّن عليه ان يعلم ان الجريمة ارتكبت او في سبيلها الى الارتكاب.
- كانت لدى القائد القدرة على منع السلوك الاجرامي او ايقافه ولم يفعل.
لا بد في البدء من الاشارة الى ان الادعاء لم يشمل سوى المتهمين الاربعة ومسؤوليتهم فردية، فيما لم يتناول الادعاء مسؤولية اي قائد دولة او حزب بالرغم من اشارة القرار في اكثر من موضع الى احدى الدول واحد الاحزاب. كما لم يتناول القرار الاتهامي مسؤولية اي دولة او حزب كشخص معنوي.
نحن نرى بان مسؤولية الدولة او الحزب كشخص معنوي مستبعدة بموجب نظام المحكمة. ولكن مسؤولية القادة لم تكن ابدا مستبعدة. والخلل هنا يكمن في الادعاء وليس في الحكم. ولكن الخطأ الذي وقع فيه الحكم انه استبعد التجريم في حين انه كان لازما عليه استبعاد الملاحقة والعقاب وليس التجريم.
وخلاصة القول انه توجد ثلاثة انواع من المسؤوليات الجنائية الدولية: مسؤولية الفرد، مسؤولية القائد ومسؤولية الكيانات المعنوية ( الدولة والاحزاب والتجمعات والجمعيات ).
ادعاء المدعي العام كان بالاستناد الى المسؤولية الفردية. ولكن لم يكن هناك اي مانع يحول دون الادعاء بمسؤولية القائد ، دون مسؤولية الدولة ( اوالحزب ) المستثناة .
ولكن هذا لم يحصل. فهل ان الغرفة الابتدائية كانت ملزمة فقط بالتقيد بالادعاءات الفردية على المتهمين الاربعة ؟
بادىء ذي بدء لا بد من القول ان الغرفة الابتدائية كانت مقيدة بادعاء المدعي العام؛ اي انها كانت ملزمة بادانة او بتبرئة المتهمين الاربعة ؛ فبرأت ثلاثة منهم وادانت الرابع ( سليم عياش).
ولكن السؤال الذي يطرح هنا، هو عن مدى الاستثناء المقيد لصلاحية الغرفة الابتدائية؟ فيطرح السؤال هل ان الغرفة الابتدائية كانت مقيدة بعدم ملاحقة الاشخاص المعنوية ( الدول والاحزاب ) ام بعدم ادانتهم، اي بالتحقق من توافر العناصر الجرمية بحقهم، فقط دون ادانتهم وانزال العقاب بهم ؟
ان الاحتمال الثاني يطرح ذاته بذاته، لان الاحتمال الاول يؤدي بنا الى نتائج عبثية، بل الى هرتقات قانونية Hérésie juridique وخيبات عديدة. وهذا ما حصل فعلا .
في قضية الحريري، ان ادانة المحكوم عليه سليم عياش لم تكن مرتكزة الى اساس قانوني واضح، اذ ان سليم عياش المذكور منتسب الى حزب الله اللبناني. وهو لم يكن على معرفة بالرئيس رفيق الحريري، فدافعه الجرمي كان سياسيا بحتا. ولكن ليس هو من قرر ارتكاب الجريمة، ولا من خطط لها او موّلها، فهو لم يكن سوى احد ادوات تنفيذ الجريمة، هو مجرد مشارك بسيط في تنفيذها، فكيف تتم ادانته وحيدا دون القادة السياسيين او الحزبيين في لبنان وفي سوريا، حسبما جاء في وقائع القضية ذاتها ؟
كان يتعيّن على المحكمة التحقق من توافر عناصر التجريم بحق من تراه من قادة النظام السوري وبحق من تراه من قادة حزب الله، والامتناع عن ادانتهم، لا لشيء الا لاعتبارهم الجهة الاساسية الفاعلة التي قررت وخططت ونفذت الجريمة بادوات صغيرة امثال سليم عياش وسواه. في حكم الغرفة الابتدائية، لدينا منفّذ مدان وليس لدينا فاعل أساسي ! وهذه نتيجة عبثية يرفضها العقل القانوني السليم وتدمى لها قلوب الباحثين.
لقد وقعت الغرفة الابتدائية في خطأ فادح، عندما مزجت عشوائيا بين التجريم من جهة والادانة والملاحقة من جهة اخرى. فالتجريم لم يكن ابدا خارج اختصاصها، بل كان لازما عليها تجريم النظام السوري وحزب الله، ولكن في ذات الوقت تمتنع عن ادانة وملاحقة اي منهما لعدم الاختصاص.
نحن لا ننتظر انتقاما او حتى عقابا بقدر ما كنا ننتظر طيلة فترة خمسة عشر عاما جلاء الحقيقة التي طالما انتظرها اللبنانيون.
ليس هذا فقط، بل ان تجهيل الفاعل الاساسي بحجة عدم الاختصاص حرم اهالي ضحايا انفجار السان جورج من اي أمل في مقاضاة الفاعلين الاساسيين امام اي مرجع قضائي مختص، للمطالبة بتعويضاتهم الشخصية.
خطأ المدعي العام امام المحكمة الجنائية الخاصة بلبنان انه ادعى على الافراد ولم يدع على القادة كما اسلفنا اعلاه. وخطأ المحكمة الابتدائية انها لم تبحث في توافر العناصر الجرمية بحق القادة والاشخاص المعنوية ( الدولة السورية وحزب الله ) لتجريمهم دون ادانتهم وعقابهم. هذا ما كان لازما ان يحصل ولم يحصل بسبب سوء فهم مدى الاستثناء المنصوص عنه في نظام المحكمة الاساسي، فوقعنا على ادانة جرمية بدون فاعل جرمي اساسي ! وقعنا على محكوم عليه منفذ وعلى تجهيل فاعل اساسي [6] !
ثالثا: فقدان الاساس القانوني
لقد جاء حكم الغرفة الابتدائية فاقدا اساسه القانوني ، اذ ان اسبابه الواقعية لم تكن كافية لتبرير الحل القانوني الذي خرجت به المحكمة. ان قراءة هادئة للحكم تحملنا على القول ان المحكمة تكلمت على جريمة بدون ان تتكلم على مجرم ! ان وقائع حكم المحكمة الابتدائية تشير الى تورط النظام السوري وحزب الله في مقتل الحريري ، لكن المحكمة امتنعت عن ادانة اي منهما لعدم الاختصاص المحكى عنه اعلاه. كان يقتضي على الغرفة الابتدائية ان ترتب نتائج قانونية على الوقائع المسرودة منها وان تجرّم دون ان تدين وتعاقب كما ذكرنا اعلاه. عندها كان سيكون حكمها ذات اساس قانوني صحيح. لقد أتت وقائع الحكم منفصلة تماما عن منطوقه اذ ليس هناك اي ارتباط قانوني او حتى منطقي بين اسباب الحكم ومنطوقه المتمثل في النتيجة التي انتهى اليها.
رابعا: الاستئناف
نسأل اذا كان اصلاح الخطأ الذي وقعت فيه الغرفة الابتدائية جائزا امام محكمة الاستئناف ؟ يجوز استئناف الحكم الصادر عن الغرفة الابتدائية وفقا للقواعد الاجرائية وقواعد الاثبات على النحو التالي:
أ ـ للمدعي العام ان يتقدم باستئناف استنادا الى اي من الاسباب التالية:
1 – الغلط الاجرائي
2 – الغلط في الوقائع
3 – الغلط في القانون
ب ـ للشخص المدان، او المدعي العام نيابة عنه، ان يتقدم باستئناف استنادا الى اي من الاسباب التالية:
1 – الغلط الاجرائي.
2 – الغلط في الوقائع.
3 – الغلط في القانون.
4 – اي سبب آخر يمس نزاهة او موثوقية الاجراءات او القرار.
ـ للمدعي العام او الشخص المدان ان يستانف اي حكم بالعقوبة [7] وفقا للقواعد الاجرائية وقواعد الاثبات بسبب عدم التناسب بين الجريمة والعقوبة.
ـ اذا رأت المحكمة اثناء نظر استئناف حكم العقوبة ان هناك من الاسباب ما يسوغ نقض الادانة كليا او جزئيا، جاز لها ان تدعو المدعي العام والشخص المدان الى تقديم الاسباب وجاز لها ان تصدر قرارا بشأن الادانة.
ـ يسري الاجراء ذاته عندما ترى المحكمة، اثناء نظر استئناف ضد ادانة فقط، ان هناك من الاسباب ما يسوغ تخفيض العقوبة.
ـ يظل الشخص المدان تحت التحفظ الى حين البت في الاستئناف، ما لم تأمر الدائرة الابتدائية بغير ذلك.
ـ يفرج عن الشخص المدان اذا كانت مدة التحفظ عليه تتجاوز مدة الحكم بالسجن.
ـ لاغراض اجرائية تكون لدائرة الاستئناف جميع سلطات الدائرة الابتدائية.
ـ اذا تبين لدائرة الاستئناف ان الاجراءات المستأنفة كانت مجحفة على نحو يمس موثوقية القرار او حكم العقوبة او ان القرار او الحكم المستأنف كان من الناحية الجوهرية مشوبا بغلط في الوقائع او في القانون او بغلط اجرائي جاز لها:
ان تلغي او تعدل القرار او الحكم؛ او ان تامر باجراء محاكمة جديدة امام دائرة ابتدائية مختلفة.
ولهذه الاغراض يجوز لدائرة الاستئناف ان تعيد مسألة تتعلق بالوقائع الى الدائرة الابتدائية الاصلية لكي تفصل في المسألة وتبلغ دائرة الاستئناف بالنتيجة، ويجوز لها ان تطلب هي ذاتها أدلة للفصل في المسألة. واذا كان استئناف القرار او كم العقوبة قد قدم من الشخص المدان او من المدعي العام بالنيابة عنه، فلا يمكن تعديله على نحو يضر بمصلحته.
ـ اذا تبين لدائرة الاستئناف اثناء نظر استئناف حكم عقوبة ان العقوبة المحكوم بها غير متناسبة مع الجريمة، جاز لها ان تعدل هذا الحكم.
ـ يصدر حكم دائرة الاستئناف باغلبية آراء القضاة ويكون النطق به في جلسة علنية. ويجب ان يبين الحكم الاسباب التي يستند اليها. وعندما لا يوجد اجماع، يجب ان يتضمن حكم دائرة الاستئناف آراء الاغلبية والاقلية. ولكن يجوز لاي قاض من القضاة ان يصدر رأيا منفصلا او مخالفا بشأن المسائل القانونية.
ـ يجوز لدائرة الاستئناف ان تصدر حكمها في غياب الشخص المبرأ او المدان.
يبقى السؤال مطروحا عما اذا كان سيتم إستئناف الحكم الابتدائي أم لا ؟ وفي حال الاستئناف هل سيتم اصلاح الاخطاء، فتطيب الخواطر، ويحل الامتنان مكان الخيبات ؟
(تحميل النسخة الكاملة)
[1] راجع لطفا المادة 89 من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
[2] راجع سلمان شمران العيباوي، الجرائم الدولية وقانون الهيمنة في ضوء المحكمة الجنائية الدولية، منشورات زين الحقوقية، الطبعة الاولى ، 2016، ص 267.
[3] زياد عيتاني، المحكمة الجنائية الدولية وتطور القانون الجنائي الدولي، منشورات الحلبي الحقوقية، ص 169؛ فاروق محمد صادق الاعرجي، القانون واجب التطبيق على الجرائم امام المحكمة الجنائية الدولية ـ دراسة في نظام روما الاساسي، منشورات زين الحقوقية، الطبعة الاولى، 2016، ص 129.
[4] المصدر : وكالة رويترز في 5 آذار 2010.
[5] المحكمة الجنائية الدولية:
http:www.hrw.org/Arabic.docs 200/07/14/sodan 19341.
[6] راجع في كل ذلك، المستشار شريف عتلم، القانون الدولي الانساني، دليل للاوساط الاكاديمية، 2006، ص 11.
[7] لم يصدر بعد الحكم القاضي بالعقوبة، الذي سيكون لنا بشأنه، على هذا الموقع كلام وتعليق.